منذ مؤتمر مدريد للسلام العام 1991 لعبت القاهرة دوراً مهماً في وصل ما انقطع في مسارات المفاوضات الاسرائيلية - العربية، وخصوصاً الاسرائيلية - الفلسطينية. فاستضافت القاهرة أكثر من قمة بين الجانبين. ففي 4 أيار (مايو) 1994 شهدت القاهرة اتفاق تحقيق الحكم الذاتي لغزة وأريحا أولاً. وفي 28 ايلول 1995(سبتمبر) تم التوقيع بطابا على اتفاق تنفيذ الحكم الذاتي وإعادة الانتشار والانسحاب الاسرائيلي من ست مدن فلسطينية في ما عرف باتفاق اوسلو 2. وفي 13 آذار (مارس) 1996 التقى في مدينة شرم الشيخ زعماء 29 دولة في المؤتمر الدولي لصانعي السلام. وهو المؤتمر الذي بادرت مصر بالدعوة الى عقده. وقامت بالإعداد له واستضافته من أجل العمل على انقاذ عملية السلام في المنطقة والحفاظ عليها وضمان استمرارها في مواجهة ما تتعرض له من تحديات وعقبات. وفي حزيران (يونيو) العام 2004 طرحت القاهرة مبادرة سياسية تستجيب لخطة الانفصال الشارونية وافقت عليها السلطة الفلسطينية إلا ان الفصائل الفلسطينية رفضتها لكونها، اي المبادرة المصرية، ليست سوى غطاء لخطة الانفصال. وبحسب هذه الخطة سيتم تحويل قطاع غزة الى سجن كبير، يكون لمصر فيه دور مصلحة السجون وسيكون عليها مراقبة الترتيب الأمني. ولعبت القاهرة دوراً محورياً في رعاية الحوار الفلسطيني - الفلسطيني بين حركة فتح وحركتي: حماس والجهاد الاسلاميتين، في شكل خاص، وبين السلطة الفلسطينية والفصائل الفلسطينية كافة. وهو الحوار الذي عقد على جولات عدة في غزةوالقاهرة. والذي أسفر في عهد الرئيس محمود عباس (أبو مازن) عن ما سمي ب «اعلان القاهرة» او اتفاق الفصائل المستند الى توافق الفصائل الفلسطينية على برنامج للعام 2005 يرتكز على الالتزام باستمرار مناخ التهدئة مقابل التزام اسرائيلي بالافراج عن جميع الأسرى والمعتقلين. وضرورة استكمال الاصلاحات الشاملة في كل المجالات، ودعم العملية الديموقراطية بجوانبها المختلفة وعقد الانتخابات المحلية والتشريعية في مواعيدها المحددة وفقاً لقانون انتخابي يتم التوافق عليه. والاجماع على ان الحوار هو الوسيلة الوحيدة للتعامل بين كل القوى دعماً للوحدة الوطنية ووحدة الصف الفلسطيني وعلى تحريم الاحتكام للسلاح في الخلافات الداخلية. وحدد مدير الاستخبارات المصرية الوزير اللواء عمر سليمان أشكال دعم القاهرة للجهود الهادفة الى انهاء الاحتلال الاسرائيلي بشكل شامل وكامل حتى حدود العام 1967. وستدعم كل جهد فلسطيني يهدف لتحقيق وحدة الصف الفلسطيني خلف قيادته الشرعية. لكن يبدو ان تياراً فلسطينياً يفسح المجال واسعاً أمام مصر للعب دور «الوصي» على الفلسطينيين. فقد ذكر أحد أنصار هذا التيار ان «المصريين لا يلعبون دور الوسيط بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي بل انهم يتبنون الأفكار والمطالب الفلسطينية ويتحدثون باسمنا في كل اللقاءات والمحادثات ومع كل الأطراف. وكان لتداعيات انسحاب الجيش الاسرائيلي من قطاع غزة على المشهد الأمني الفلسطيني لجهة «التشبيح» الأمني وفوضى السلاح وتجاوز الحدود مع مصر. ولجهة ادعاء الاسرائيليين ان الفلسطينيين تمكنوا من تهريب اكثر من الف بندقية كلاشنيكوف ومئات آلاف الرصاصات وعشرات المنصات لإطلاق الصواريخ الى قطاع غزة خلال الأيام التسعة التي تلت انتهاء الانسحاب. كان لها اثرها في افصاح القاهرة بعد انتشار جنودها على امتداد 14 كيلومتراً في محور فيلادلفيا، عن عزمها ضبط الأمن الحدودي بصرامة ولا سيما بعد اكتشافها لبعض أنفاق تهريب السلاح. وهذا ما شدد عليه الرئيس المصري حسني مبارك بقوله في مقابلة مع صحيفة «يديعوت احرونوت»: «ليس في مصلحتنا ان تتم عمليات تهريب. فالمرء لا يعرف أين ينتهي الأمر بالاسلحة. نحن نقوم دائماً بعمليات التفتيش والقبض على المهربين ولكن وجود قواتها لن يضمن اغلاقاً تاماً للحدود». وهذا ما دفع اسرائيل ايضاً للتهديد أخيراً بإعادة الأمور في قطاع غزة والضفة الغربية ايضاً الى ما كانت عليه قبل العام 1967، اي تسليم القطاع الى مصر والضفة الغربية الى الاردن. كما تحدثت أنباء وسائل اعلام اسرائيلية عن دولة فلسطينية مبتورة الى قسمين: «فلسطينالشرقية» في الضفة الغربية و «فلسطينالغربية» في قطاع غزة. وبرر أحد السيناريوهات الاسرائيلية اعادة إحياء «الانتداب المصري» في قطاع غزة في التأكيد ان اقامة دولة «حماس» في غزة لم تبحث في اسرائيل وحدها، بل بينها وبين مصر. والاخيرة غير مطالبة وهي غير قادرة على منع إقامة دولة «حماس» أو فرض إرادة السلطة الفلسطينية في قطاع غزة. وإذا تسلل «مخربون» أو مهربو سلاح من مصر الى غزة لن يكون بإمكان الجنود المصريين ان يلاحقوهم، وإذا قرر اتباع «حماس» قصف المزيد من المعابر في منطقة السور الفاصل بين غزة ومصر، فلن يكون بإمكان مصر ان تمنع ذلك ايضاً. ولذلك فإن الانتداب المصري يشكل مصلحة وحاجة اسرائيلية وتزداد هذه الحاجة لمواجهة دولة «حماستان» التي قد تنشأ بين اسرائيل ومصر. لأن مصر وحدها القادرة على منح صلاحيات ما لابي مازن في القطاع الذي يخصه والتوصل الى هدنة مع «حماس». ومصر قادرة على ان تلعب دور الرديف الاقتصادي لقطاع غزة. ولتسويق فكرة «الانتداب المصري» اسرائيلياً لا بد لحكومة شارون أو اي حكومة اسرائيلية ستنتجها انتخابات الكنيست المقبلة من مواجهة بعض «الهوليغانز» السياسيين الاسرائيليين الذين ما زالوا يرون في مصر دولة معادية على رغم مضي 26 عاماً على معاهدة السلام المصرية - الاسرائيلية. ويضاف الى أولئك ان كل من عارض خطة شارون لفك الارتباط الاحادي الجانب انقض بغضب على نشر القوة المصرية في محور فيلادلفيا، بعد تعديل معاهدة السلام وتوقيع الاتفاق العسكري بين اسرائيل ومصر، لانتشار 750 من افراد حرس الحدود المصريين على محور فيلادلفيا في الجانب المصري من الحدود. ودعاها «كارثة استراتيجية» لدولة اسرائيل. وقد ذهب بعيداً في هجومه رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، الذي قال وكتب انه «منذ قضية حصان طروادة، لم يكن مثل هذا الشيء في تاريخ الأمم... اسرائيل تكلف القط الفلسطيني والذئب المصري حراسة الجبنة»، اي منع التهريب والارهاب. إزاء سير الأمور والتجاذبات الاقليمية والدولية نحو تكريس وصاية أو انتداب مصري على الفلسطينيين في قطاع غزة أو استنساخ النموذج الأفغاني لجهة «بكستنة» مصر و «طلبنة» حماس فإن متاهة جديدة سيدخلها الفلسطينيون تطيح بطموحاتهم الوطنية في حدودها الدنيا. --------------------------------------- الحياة - 07/10/05// كاتب فلسطيني.