شارك الرئيس الجزائرى عبدالعزيز بوتفليقة والعديد من الوفود العربية ودول شمال أفريقيا، وعلى أرسهم الدكتور طلعت عفيفى وزير الأوقاف ورئيس المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، فى مراسم تشييع جثمان الرئيس الجزائرى الأسبق الشاذلى بن جديد، الذى توفى أول أمس /السبت/ عن عمر يناهز 83 عاما بعد صراع طويل مع المرض. وقد انطلق موكب الجنازة بعد صلاة الظهر (بالتوقيت المحلى) من قصر الشعب بالجزائر العاصمة متوجها إلى مثواه الأخير بمقبرة (العالية)، حيث سيوارى الثرى بمربع الشهداء. وتم نقل جثمان الفقيد، الذى كان مسجى بالعلم الجزائرى على عربة عسكرية مكشوفة رصت أطرافها بأكاليل من الزهور. وقد شارك فى مراسم تشييع الجنازة وفد رفيع المستوى من تونس ضم وزير الدفاع عبدالكريم الزبيدى ووزير الخارجية رفيق عبدالسلام ورئيس أركان الجيش التونسى رشيد عمار ومدير الديوان الرئاسى عماد الدايمى. كما شارك وفد مغربى برئاسة وزير الخارجية سعد الدين العثمانى، وضم وزير الأوقاف أحمد توفيق ومستشار الملك عمر عزيمان، ووفد من فلسطين برئاسة عضو اللجنة المركزية لحركة فتح الفلسطينية عباس زكى بالإضافة إلى السفراء المعتمدين فى الجزائر. وقد اصطفت الآلاف من الجماهير الجزائرية على أطراف الشوارع التى سلكها الموكب الجنائزى لتوديع رجل ارتبط اسمه بتاريخ الجزائر إبان ثورتها التحريرية وأثناء معركة التشييد، كما يعرف باسم "أبو الديمقراطية" حيث أصدر دستور 1989 الذى ينص على التعددية الحزبية وأطلق الحريات. كما خرج الجزائريون والجزائريات من مختلف الأعمار ليودعوا رجلا لم يثنه هموم بلاده الداخلية من مواصلة نضالاته على الصعيد العربى، حيث عقد الاجتماع التاسع عشر للمجلس الوطنى الفلسطينى فى 15 نوفمبر 1988 فى الجزائر العاصمة، وأعلن أعضاء هذه الهيئة التشريعية فى منظمة التحرير الفلسطينية "دولة فلسطينية مستقلة". وكان جثمان الشاذلى بن جديد قد نقل أمس /الأحد/ من مقر سكناه بمنطقة (الأبيار) بوسط العاصمة إلى (قصر الشعب) المقر الرئيسى للدولة حيث ألقيت عليه النظرة الأخيرة من كبار المسئولين فى الدولة وعلى رأسهم الرئيس بوتفليقة وشخصيات سياسية وتاريخية وفكرية وأعضاء السلك الدبلوماسى المعتمد بالجزائر من بينهم المستشار عمر فهمى القائم بالأعمال فى السفارة المصرية إلى جانب الآلاف من المواطنين والمواطنات من مختلف الشرائح. والشاذلى بن جديد، الذى وافته المنية أول أمس /السبت/ فى مستشفى (عين النعجة) العسكرى، عن عمر يناهز 83 عاما وبعد صراع طويل مع المرض، هو ثالث رئيس جزائرى يتولى السلطة بعد أحمد بن بلة وهوارى بومدين. وتم انتخاب الشاذلى بن جديد رئيسا للجزائر فى 1979 بحكم كونه العسكرى الذى يتمتع بأعلى رتبة فى الجيش، فضلا عن أنه كان محل توافق بين أبرز وجوه المؤسسة العسكرية آنذاك مثل قاصدى مرباح الذى كان يشغل منصب رئيس الاستخبارات الجزائرية، والذى كان يعتبر الرجل الأقوى فى البلاد، وكبار مسئولى اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطنى والأمن الوطنى مثل بوتفليقة وطالب الإبراهيمى. بعد سنة فقط من وصوله إلى السلطة، واجه الشاذلى بن جديد فى أبريل 1980 أول أزمة سياسية والتى تعرف بأزمة "الربيع البربرى" قام على إثرها بإرسال القوات الخاصة إلى مدن منطقة القبائل التى تضم ولايات (تيزى وزو وبجاية والبويرة) من أجل وضع حد للتظاهرات الضخمة التى نظمها الأمازيع - سكان منطقة القبائل - للمطالبة بالديمقراطية وبحقوق الإنسان، فضلا عن الاعتراف دستوريا باللغة الأمازيغية.. وأدى القمع العنيف إلى مقتل حوالى 200 شخص، معظمهم من طلبة جامعة تيزى وزو وتقديم المئات للقضاء. وحاول الشاذلي فى الثمانينات أن يترك بصمته على الحياة السياسية والاقتصادية من خلال إطلاق مشاريع تنموية واقتصادية حيوية وإبعاد بشكل سلس بعض الوجوه العسكرية التى كانت تتمتع بنفوذ قوى فى الجهازين السياسى والاستخباراتى، لكنه لم يتمكن من تغيير النظام بأكمله من الداخل، بل بات العسكر هم المسيطرون على الحكم الحقيقى فى الجزائر. وقد ساعدت أزمة النفط فى 1986 والتى أدت إلى تدهور سعر برميل البترول إلى أدنى مستوى له - إذ وصل فى بعض الأحيان إلى 7 دولارات للبرميل الواحد - الشاذلى بن جديد على مواصلة سياسة التنمية والبناء التى اتبعها بومدين والاستمرار فى تقديم المساعدات الاجتماعية سواء بشكل مباشر أو من خلال دعم الدولة للمواد الاستهلاكية والسكن والزراعة والتعليم والصحة. وأدى تدهور الاقتصاد وانتشار الفساد داخل الدولة ومؤسساتها وظهور البطالة فى بلد لم يكن يعرفها إلى بروز مشاكل اجتماعية كبيرة فى المجتمع الجزائرى، إضافة إلى انشقاقات سياسية داخل حزب جبهة التحرير الوطنى، وهو الحزب الوحيد الذى حكم الجزائر من 1962 حتى 1989. وقد أضعفت انتفاضة أكتوبر 1988 حكم الشاذلى بن جديد بشكل كبير بعد أن خرج عشرات الآلاف من الجزائريين إلى الشارع فى كبرى مدن الجزائر مثل الجزائر العاصمة ووهران وعنابة وقسنطينة من أجل المطالبة بتحسين أوضاعهم المعيشية وإصلاح المنظومة السياسية الجزائرية.. ومثل ما جرى فى تيزى وزو عام 1980، خرجت دبابات الجيش الجزائرى مرة ثانية إلى الشارع وقمعت المظاهرات بالقوة، ما أدى إلى مقتل حوالى 500 شخص واعتقال المئات. وردا على هذه الانتفاضة التى يسميها البعض "بالربيع الجزائرى" قام الشاذلى بن جديد بتعديل الدستور والسماح بالتعددية الحزبية والإعلامية، إضافة إلى حرية تشكيل الجمعيات. وعلى ضوء هذا التعديل الدستورى، عرفت الجزائر بين 1989 و1992 ربيعا ديمقراطيا حقيقيا نتج عنه تشكيل أكثر من 60 حزبا سياسيا وصدور عشرات الصحف والمجلات الخاصة، إضافة إلى جمعيات فى شتى الميادين.. فيما تم تنظيم أول انتخابات محلية حرة فى 1991 فازت بها جبهة الإنقاذ الإسلامية التى كان يتزعمها عباس المدنى وعلي بلحاج. ورغم المخاوف من استيلاء الإسلاميين على البرلمان الجزائرى والإنذارات التى قدمت للرئيس الشاذلى بن جديد بداية 1992، إلا أن هذا الأخير أصر على تنظيمها ما أدى إلى تقدم جبهة الإنقاذ الإسلامية فى الدور الأول، ولم يتمكن الشاذلى بن جديد، الذى كان مستعدا للتعايش مع الإسلاميين، من إنهاء إصلاحاته السياسية، بل قام الجيش بتنحيته فى أواخر 1992، فضلا عن وقف المسار الانتخابى وحل حزب جبهة الإنقاذ الإسلامية. وفى أواخر عام 1992، ظهر الرئيس الشاذلى بن جديد على التلفزيون الجزائرى متعب الوجه ووجه خطابا قصيرا جدا للشعب الجزائرى قال فيه "إيمانا منى بمسؤولياتى فى مثل هذه الفترة الخطيرة التى تمر بها بلادنا، أعتقد أن الحل الوحيد لإنهاء الأزمة هو أن أبتعد عن الساحة السياسية".