جاء في (أهرام) الأمس أن كوندوليزا رايس أعلنت لإذاعة ال(بي بي سي) أن العمل العسكري ضد إيران "غير مطروح على جدول الأعمال حاليا.. الرئيس بوش لم يستبعد أي خيار".. وهذا أدق تعبير عن النيات الأمريكية تجاه إيران ، صدر عن مسئول أمريكي كبير حتى الآن. فلا يوجد وجه للعجلة في إجهاض البرنامج النووي الإيراني ، وأميركا لم تنته بعد من العراق حتى تتفرغ لإيران عسكريا. وهي تعد للأمر من الآن بدءا بالحلقة الأضعف (سوريا) ، ومنها إلى الحلقة المستعصية (حزب الله) في لبنان كما فصلت بالأمس. وحتى يحين وقت العمل العسكري لن يضيع الأمريكيون يوما دون إستغلاله في إطار حملة نفسية شرسة تستهدف ثلاثة أطراف: الإيرانيين لتوتير أعصابهم واستفزازهم إلى فعل أحمق يوفر الذريعة المطلوبة للحرب ، والرأي العام الأمريكي لإقناعه بضرورة الحرب وصدق مبرراتها ، والرأي العام الدولي لاستعطافه وتحييد إحتجاجاته قدر المستطاع. وقبل أن نتعرض لما سيجري ضد إيران ، نذكر بالحملة الإعلامية التي مهدت لحرب إسرائيل الأخيرة ضد المجتمع الفلسطيني. هذه الحملة إنطلقت على مدى شهرين بعد قمة كامب دافيد 2000التي قدم خلالها إيهود باراك عرضا خبيثا إلى ياسر عرفات يطلب فيه تقسيم الحرم الشريف والقدس العربية والتنازل عن حق العودة وإعلان نهاية الصراع. وكان رفض عرفات للعرض أمرا طبيعيا ، إستغله الصهاينة بإطلاق حملة إعلامية تقوم على تكرار ما يلي : "عرفات رفض عرض باراك الكريم الذي لم يجرؤ زعيم إسرائيلي قبله على تقديمه.. الفلسطينيون أثبتوا أنه ليس لديهم شريكا للسلام .. رفض عرض باراك يعني الإصرار على نهج الإرهاب ، وتحمل أية أحداث عنف تقع". ومنذ إنتهاء المؤتمر في يوليو 2000 وحتى زيارة لشارون للحرم في نهاية سبتمبر، والتي أطلقت شرارة إنتفاضة الأقصى ، ومن ثم حرب الأربعة سنوات ضد الفلسطينيين ، ظلت صحف وتلفزيونات أوربا وأميركا تكرر هذه المزاعم بصيغ مختلفة ، وكأن الجميع كان يتحرك بأوامر جهة واحدة تدير الحملة التبريرية لما كان شارون يخطط له ، ويتواطأ معه لتحميل عرفات والفلسطينيين وزر ما سيحدث. وعندما إنطلقت إنتفاضة الأقصى ، وسقط القتلى الفلسطينيون بالعشرات في أيامها الأولى إشتد السعارالإعلامي بتخفيف بشاعة ما يجري ضد الفلسطينيين ، وتصوير الأمر وكأن ضحيته الأولى هو أمن إسرائيل الذي يصر عرفات على تهديده. وكانت الصحافة الأمريكية تضيق بشدة على أية خطاب يسعى إلى دحض مقولة "عرض باراك الكريم" وحجب كل ما من شأنه التأثير سلبا في الحملة التبريرية لحرب العقاب الجماعي على الشعب الفلسطيني لرفضه الاستسلام والتنازل عن القدس والحرم وحق العودة. أما الأمريكيون الشرفاء الذين حاولوا توضيح حقائق ماجرى في كامب دافيد ، مثل روبرت مالي مستشار الرئيس السابق كلينتون ، فلم يتمكنوا من نشر آرائهم إلا بعد عامين من إنطلاق الحرب وتمكن شارون من إجتياح الضفة. وجاءت أقذر لحظات التواطؤ الإعلامي الغربي في هذه الحرب عندما قام اليهود بمحاصرة مجموعة من الفلسطينيين لجأت إلى كنيسة المهد في بيت لحم ، وهي ثاني أهم المقدسات المسيحية ، وأخذوا يطلقون النار على الكنيسة حتى قتلوا أحد عمالها وأشعلوا النار في أحد حجراتها.. فقد عمد الإعلام الغربي إلى تحميل الفلسطينيين ذنب ما يجري وكأن لإسرائيل الحق في أن تستبيح ما تشاء من مقدسات في سبيل أمنها. وأيضا في التمهيد لغزو العراق ، جرى التمهيد له بتكرار الحديث عن أسلحة الدمار الشامل وعلاقة صدام بالقاعدة (70% من الأمريكيين كانوا يعتقدون بالفعل بأن لصدام علاقة بواقعة 11/9) ، والتعتيم على كل ما من شأنه التأثير سلبا على هذه الأكاذيب. ولكن أكاذيب العراق كانت من النوع قصير الأجل السهل إنكشافه لأن الغرض منها كان تحقيق الغزو ووضع اليد على ثروة العراق، وقد حدث. أما أكاذيب حرب إسرائيل على الفلسطينيين ، فهي طويلة الأجل لن يسمح بكشفها حتى تتم تصفية القضية الفلسطينية .. تماما كما جرى مع الهنود الحمر.. لم تنكشف حقائق مأساتهم إلا بعد إبادتهم. [email protected]