كان (محمود طاهر حقي) عم الأديب الشهير (يحيى حقي) صديقا شخصيا لأمير الشعراء أحمد شوقي، وهي الصداقة التي أتاحت ليحيى حقي أن يرى شوقي عن قرب ويجالسه عدة مرات، ويوما ما أعطاه احمد شوقي فصته (أميرة الاندلس) ليبدي فيها رأيه، وكان يحيى في هذا الوقت ابن السادسة عشرة من عمره، يقول معلقا على هذه الحادثة: تجرأت ونقدت له القصة بشيء من العنف، وكان غرورا مني، ومن الكتب التي نقرؤها في بيتنا، إلى جانب القرآن ، ومقامات الحريري، والبخلاء للجاحظ وديوان المتنبي.. وأمام هذا النص الوارد في رد حقي على شوقي، كان ندائي المتكرر لشبابنا وشباتنا ممن يسلكون طريق الادب، ويقتحمون ميادينه ويتجشمون عناء الكتابة فيه، يدفعهم الحب والرغبة دون أن يتسلحوا لمسيرته بالزاد اللازم، والرصيد المناسب. والحق أن البون شاسع وكبير بين ادباء اليوم وأسلافهم من أدباء الأمس.. فإذا سألت أديب اليوم ما حصيلتك الأدبية؟ لا تجد في جوابه إلا أنه قرأ للعراب أحمد خالد توفيق، ولو كان مجتهدا أكثر، لذكر لك روايات نجيب محفوظ واحسان عبد القدوس، ولو كان مميزا أكثر، لذكر لك روايات دوستويفيسكي وشكسبير. هذا فقط هو زاد أغلب أدباء اليوم من الجيل الصاعد، الذين يختلفون اختلافا جذريا عن أدباء الأمس، في تحري مصادر الثقافة الأدبية الرصينة. أما الجيل الماضي فكان غارقا في كتب الجاحظ والاغاني ومقامات الحريري، والعقد الفريد، وعيون الادب، وحياة الحيوان، وبهجة المجالس، والكامل للمبرد، ومعجم الأدباء، وكتب التوحيدي، وصبح الأعشى، وخزانة الأدب، والصناعتين، ولباب الأدباء والأمالي، وتحفة الرائد، ومقامات الهمزاني والحريري والسيوطي والزمخشري، ودواوين البحتري والمتنبي، والمعري وعنترة وذي الرمة، وجمهرة أشعار العرب، ونهاية الأرب والعمدة وطبقات الشعراء، وطبقات فحول الشعراء. وقبل هذا كله كان القرآن الكريم أولا وأخيرا، سيد المراجع، والمنهل الذي يستقي منه الأدباء بلاغتهم ويروون منه ظمأهم، ويشبعون به غلتهم. إن مقصد الأدباء الناضجين يستلزم أمرين، أولاهما أن يمتلك الطالب قدرا معقولا من الحفظ ، ثانيا أن يتوفر لديه قسط مقنع من التذوق، وهما الزاد الملح لخلق شاعرية يقظة، وحاسة أدبية عالية الإدراك. وهو ما دعى شوقي أمير الشعراء أن يعطي قصته لصبي في مقتبل الشباب، لا يملك من العمر الا 16 عاما، اقتنع به كقارئ له ذوقه الأدبي وحسه البلاغي، لأنه وجد في بيئة سلحته بهذه المراجع العظمى من عيون تراثنا الأدبي. ما أبعد البون بين أدباء اليوم وأدباء الأمس.!