إلى عهد محمد علي وقبل مجيئه كان الأزهر هو القوة الشعبية الضاربة والمؤثرة في الشارع المصري، وكان للعلماء مكانتهم وسلطانهم الذي يخشاه السلاطين والأمراء ويحسبون له ألف حساب.. وإذا أردت أن تعرف معنى هذا الكلام فما عليك إلا أن تراجع صفحات من كفاح الأزهر وصموده في وجه المحتل الفرنسي وكيف أحبط أحلام نابليون وأمانيه في السيطرة على الشرق؟! وإلى هذا العهد كان الأزهر قوة شعبية هائلة مؤثرة، حتى جاء عهد الداهية الماكر، أو بتعبير أصح الطاغية الماكر (محمد علي) الذي حكم مصر وبرغبة وإرادة الازهر وعلمائه، حينما توسموا فيه الخير واستطاع هو بمعسول الكلام والوعود الكاذبة، أن يخدعهم وينافقهم ويمنيهم، وحينما استتب له الأمر، أدرك أن الأزهر الذي عينه، من الممكن كذلك أن يفصله وينحيه من وظيفته، ومن ثم لابد من إجراءات جذرية للتقليص من تأثيره وقوته، أو محوها أو الحد منها، فماذا فعل محمد علي كى يقضي على النفوذ الأزهري في الشارع المصري؟! وحتى يخلو له الجو، فلا يكون هناك من يهدد وجوده ويحاسبه ويمثل له صداعا مستمرا؟! وتحت غطاء بنائه للدولة الحديثة وتحدي دولة الخلافة، التي يؤيدها العلماء ويباركون وجودها، ويجعلونه من العقيدة، كان يخفي هدفه الكبير، فلجأ إلى المكيدة التي عاونه فيها من أسماهم الجبرتى بمشايخ الوقت من العلماء، فعزل عمر مكرم عن نقابة الأشراف، وعين الشيخ السادات بدلًا منه، ليزرع الفتن في النفوس. ونفى السيد (عمر مكرم) إلى دمياط في 9 من أغسطس 1809م وظل بها حتى نهاية حياته، وأعاد تنظيم ملكية الأراضي، وأمم (600.000) ألف فدان من أراضي الأوقاف، وهي التي كانت تمول بناء المساجد والمدارس الدينية في الدولة المصرية وتشكل الأساس الاقتصادي للعلماء ، ومن هنا كان هذا الاجراء أول ضربة اقتصادية ضد العلماء واستقلاليتهم، حين جعلهم أكثر اعتمادا ولجوءًا على تمويل الدولة، وهو ما أدى إلى غضب واسع بين العلماء، كما فرض الضرائب على المدارس الإسلامية والأراضي التابعة للمساجد، كما كانت فكرته الجهنمية حينما أسس نظاما قضائيا مستقلا حتى يتحايل به على سيطرة العلماء على المؤسسات الدينية، ولكن الخطوة التالية كانت تعد أكبر الإجراءات التي اتخذها لضرب الأزهر في الصميم وذلك حينما عمل على تأسيس نظام التعلم العلماني للأطباء والمحامين والمهندسين وبقية المهن ، فهذه المؤسسات سحبت بساط القيادة من تحت الازهر وعلمائه، كما قلصت هذه المهن فرص الازهر وطلابه في سوق العمل، ومن جهة أخرى أضعفت تأثيرهم الشعبي، وتقرب محمد علي من رجالات الأزهر الموصومين بالخيانة والعمالة وسوء السمعة لتعاملهم مع الحملة الفرنسية، وعمل على بسط نفوذهم، تدخل لأول مرة في تاريخ الأزهر في اختيار شيخه، وجرى ذلك سنة 1812 حين اختار شيوخ الأزهر الشيخ محمد المهدي خلفا للشيخ عبد الله الشرقاوي، فعين محمد علي الشيخ محمد الشنواني شيخا للأزهر. كما عين الشيخ حسن العطار شيخًا للأزهر في سنة 1830 لتطويع المؤسسة الإسلامية لخدمته سلطته ونظامه.. وبهذا استطاع محمد علي أن يخنق الأزهر ويمحو دوره ويصدع أركانه ويلغي وجوده في الحياة السياسية.