منذ يوم 13 نوفمبر 1918 كانت مصر كلها حكومة وشعبًا تحتفل بعيد الجهاد الوطني، وكان هذا اليوم من كل عام إجازة رسمية فى أنحاء مصر المحروسة، واستمرت هذه الإجازة تطبق لمدة ثلاثة عقود حتى تم إلغاء هذه الإجازة الرسمية بعد قيام حركة يوليو 1952، ونظرًا لمرور مائة عام على هذا الحدث التاريخي. وحيث إن معظم شباب مصر ليس لديهم فكرة عن هذا اليوم التاريخي، كما أن الحكومة لم تعد تحتفل بهذه الذكرى العطرة ولا تذكرها فى تاريخ مصر الحديث إلا فى نادر الأحيان واحتفل بها حزب الوفد فى ثمانينيات القرن الماضى لعدة مرات تعد على أصابع اليد الواحدة ولم تعاود الكرة حتى الآن ولا الحكومة فكرت فى إعادة هذا الاحتفال أو إعادة الإجازة الرسمية. ولماذا هذا الحدث التاريخى نعود لأحوال مصر قبل هذا اليوم مصر كانت ولاية عثمانية يحكمها السلطان أحمد فؤاد بفرمان صادر من الدولة العثمانية فى الآستانة وفى نفس الوقت كانت تحت الحماية البريطانية أى أن مصر لم تكن دولة مستقلة. ثم وضعت الحرب أوزارها وصارت صيحات فى أنحاء العالم تطالب شعوبها بالاستقلال وخصوصا أن رئيس الولاياتالمتحدة أعلن أن بلاده تشجع شعوبًا كثيرة للاستقلال والخروج من الاحتلال الأجنبى وتحاور الزعماء المصريين فيما بينهم لبحث المطالبة باستقلال مصر فالشعب ليس أقل من الشعوب الأخرى وقام ثلاثة من زعماء مصر وهم سعد زغلول باشا وعبدالعزيز فهمى باشا وعلى شعراوى باشا. بزيارة المعتمد البريطانى الذى كان مسئولا عن الحماية البريطانية على مصر. واستقبلهم المعتمد البريطانى بكل احترام وبكل ود وقدم لهم الشاى الإنجليزى المعتاد عند البريطانيين الساعة الخامسة مساء ومعه البيتيفور وغيره وسألهم عن سبب الزيارة فقالوا له إن شعوبًا كثيرة طالبت بالاستقلال بعد انتهاء الحرب العظمى وشعب مصر ليس أقل من هذه الشعوب فنحن أيضا نطالب باستقلال مصر وأن تصبح مصر دولة مستقلة وتخرج من التبعية للدولة العثمانية وأيضا إلغاء الحماية البريطانية على مصر. فأجابهم بأن الوقت مبكر لطلب الاستقلال فالشعب غير مؤهل لإدارة البلاد. وأنتم بهذا الطلب كمن يقوم بتقديم طعام كامل لطفل رضيع فإنه لا يستطيع هضم هذا الطعام بل إنه قد يصاب بتخمة غير معروفة العواقب ثم فاجأهم بالسؤال الخطير من أنتم؟ ومن تمثلون؟ وانتهت المقابلة وعلمت الجماهير بما تم فى هذا اللقاء بين الزعماء الثلاثة والمعتمد البريطانى وبدأ الشعب المصرى يستخرج التوكيلات لسعد ورفاقه بالسعى للاستقلال ما استطاعوا لذلك سبيلا وتم استخراج ملايين التوكيلات من جميع المدن والقرى. وارتفعت الروح الوطنية إلى عنان السماء لأن هذه أول مرة يطالب فيها المصريون بالاستقلال. فقبل ذلك اليوم التاريخى كانت المطالبة فقط بإلغاء الحماية البريطانية على مصر مع الاستمرار فى التبعية العثمانية وتظل مصر ولاية عثمانية يحكمها والٍ غير مصرى من قبل السلطان العثمانى بفرمان من الآستانة وللأسف بعض المؤرخين قاموا بتشويه التاريخ وأسندوا أدوارا وطنية لبعض الزعماء المصريين وبأنهم كانوا يطالبون بالاستقلال بعكس الحقيقة بأنهم كانوا يطالبون بالعودة ولاية عثمانية وفقط إلغاء الحماية البريطانية على مصر حتى تعود مرة أخرى تحت السيطرة العثمانية وهدفهم فقط إبعاد بريطانيا. بعد هذا الزخم من التوكيلات من الشعب المصرى لسعد ورفاقه. وقيام الزعيم الخالد سعد زغلول بخطاباته بالمنتديات وتحريضه على المطالبة بالاستقلال بدأ الشعب المصرى يستيقظ وبدأت نغمة المطالبة بالاستقلال ترتفع وطلب الزعيم سعد زغلول السماح له ولوفد من زعماء مصر بالذهاب لمؤتمر الصلح فى باريس للمطالبة باستقلال مصر فلم توافق السلطات البريطانية على ذلك. فزاد الاحتقان بين الشعب والمحتل البريطاني. واستمر سعد زغلول فى تهييج الجماهير بخطاباته الرائعة والرنانة والتى تصدر من القلب ويقال إن مصر منذ ذلك الوقت لم يظهر فيها خطيب مثل سعد فى بلاغته وقوة صوته وسرعة وصول أهدافه إلى قلوب المصريين ولما ازدادت تحركات سعد وكثرت خطاباته بين الجماهير وبدأت الجماهير تلتف حوله بسرعة فائقة. أرسلت إليه السلطات البريطانية فى مصر بعدم عقد أى اجتماعات والسفر والإقامة فى الريف فى مسقط رأسه. ولما لم يمتثل الزعيم لهذا الإنذار واستمر فى تحركاته طالبا من الشعب المصرى الثورة ضد الاحتلال البريطانى حتى تغادر جيوشه مصر ويتم استقلال البلاد. قامت السلطات البريطانية بالقبض على سعد زغلول وأصحابه ونفيهم فى جزيرة مالطة واعتبروا أن الموضوع انتهى وأن الشعب المصرى سيهدأ وأن سعد زغلول هو الذى يقوم بتهييجهم وأن المصريين بطبيعتهم يميلون إلى الهدوء وأنه شعب طيب بالفطرة وبعد إعلان نفى سعد وأصحابه إلى جزيرة مالطة ذهب زعماء الوفد الموجودون بالقاهرة إلى منزل الزعيم سعد لمقابلة السيدة الفاضلة صفية زغلول زوجة الزعيم وحاولوا تهدئتها وقالوا لها إن بعض الأصدقاء نصحوا الزعيم سعد بألا يقوم بتهييج الجماهير لأن النتيجة لن تكون فى مصلحة سعد وهذا سعد فى المنفى فى مالطة. أين الشعب المصرى فالكل يرتاح فى بيته وسعد الرجل العجوز المريض يعانى النفى والتشريد وسيظل فى المنفى إلى أن يأتى انتهاء أجله. فانتفضت فيهم أم المصريين وهذا اسم لقبها به المصريون وقالت لهم: "أنتم مصريون ولا تعرفون طبيعة الشعب المصرى فالشعب المصرى مثل الرمال تدوسون عليه بأقدامكم آناء الليل وأطراف النهار ولكن إذا هبت العاصفة فستمنعكم تلك الرمال من الخروج من منازلكم، وبالمناسبة والدة السيدة صفية زغلول جزائرية. وفى أثناء هذا النقاش كانت المظاهرات التى خرجت من الجامعة وصلت إلى بيت سعد زغلول فى المنيرة وهنا بدأت شرارة ثورة 1919 أول ثورة شعبية فى تاريخ مصر الحديث وانضمت جميع طوائف الشعب إلى الثورة وكان هتافها (سعد.. سعد.. يحيا سعد) واستمرت الثورة فى جميع مدن مصر وقراها وشارك فيها الجميع طلبة وعمال وفلاحون حتى الموظفون الحكوميون شاركوا فيها وتقدمت المرأة الصفوف وتلقفت صدورهن رصاص الانجليز الغادر وصرن من شهداء الثورة وبعد أن شملت الثورة جميع أنحاء مصر ولم تستطع السلطات إخمادها اضطرت السلطات البريطانية للإفراج عن سعد وصحبه وعاد إلى مصر فى استقبال مهيب ليس له نظير. فى تاريخ مصر واجتمعت الجماهير الغفيرة من المصريين فى الإسكندرية لاستقبال سعد وكان هذا كله هو السبب الأصيل فى أن تصير مصر دولة مستقلة لأول مرة منذ نحو 2000 عام وصار لها لأول مرة دستور 1923 وأول مجلس نواب يمثل الشعب 1924 وكل ذلك تم ابتداء من نوفمبر 1918 بسبب مطالبة سعد وصحبه بالاستقلال فسلام عليك يا سعد أنت وأصحابك ولتهنأ فى دار الخلد.. إنك سميع مجيب الدعاء يا رب العالمين.