يعتبر مفهوم القوة الناعمةSoft Power من المفاهيم الحديثة نسبيا على مستوى العلاقات الدولية، حيث ظهر بشكل واضح على المستوى الأكاديمي خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي، وذلك للتأكيد على أهمية الأدوات غير العسكرية في تحقيق أهداف السياسة الخارجية. ويعتبر مفهوم القوة الناعمة أحد أهم أفكار عالم السياسة الأمريكي "جوزيف ناي" (الذي اختير في عام 2005 كواحد من أفضل عشرة مفكرين في العالم في مجال العلاقات الدولية). حيث صاغ هذا المفهوم لوصف القدرة على الجذب والضم دون الاكراه أو استخدام القوة كوسيلة للاقناع. وفي الآونة الأخيرة، تم استخدام المصطلح للتأثير على الرأي الاجتماعي والعام وتغييره من خلال قنوات أقل شفافية نسبياً والضغط من خلال المنظمات السياسية وغير السياسية. يقول: جوزيف ناي: أنه مع القوة الناعمة "أفضل الدعايات ليست دعاية"، موضحاً أنه وفي عصر المعلومات، تعد "المصداقية أندر الموارد". ظهر مفهوم القوة الناعمة لأول مرة بمعناه الحالي، في عام 1990، في مقال كتبه "ناي"، في دورية "السياسة الخارجية"، تحت عنوان "القوة الناعمة: استخدام الجاذبية والإقناع لتحقيق أهداف السياسة الخارجية للدولة". ثم أستخدمه بشكل موسع في كتابه "وثبة نحو القيادة Bound to Lead" الصادر عام 1990، والذي قام ردا على دراسة بول كيندي سقوط وصعود القوى الكبرى حيث يشير إلى أن القوة الامريكية ليست في تراجع وأن القوة الناعمة مكملة للقوة الصلبة. ثم أعاد استخدامه في كتابه "مفارقة القوة الأميركية "The Paradox of American Power" عام 2002. ثم طوّر ناي الأفكار الواردة في كتاباته السابقة وتوسع فيها، وعززها بكتاب أكثر شمولية وعمقا حين أصدر كتابه الشهير "القوة الناعمة Soft Power" وسائل النجاح في السياسة العالمية عام 2004 وهو الكتاب الذي نظّر وأصّل فيه للمفهوم بطرح فكري وعمق تحليلي بالغ مما جعله أحد أهم مفاهيم تحليل السياسات الدولية. وعلى مدار أكثر من ربع قرن أثرى ناي مفهوم القوة الناعمة بالكتب والأبحاث والمحاضرات مما جعله يتحول لواحد من أكثر المصطلحات شيوعا في عالم السياسة والإعلام. عرّف (جوزيف ناي) القوة الناعمة بأنها: "في جوهرها قدرة أمة معينة على التأثير في أمم أخرى وتوجيه خياراتها العامة، وذلك استنادا إلى جاذبية نظامها الاجتماعي والثقافي ومنظومة قيمها ومؤسساتها بدل الاعتماد على الإكراه أو التهديد". أي أن "القوة الناعمة" هي: "قدرة الدولة على تحقيق الجذب والتأثير من دون إجبار وإكراه"، أي: "قدرة الدولة على خلق مطاوعة لإرادتها وسياساتها لدى الآخرين عبر الإقناع، ودون حاجة إلى القوة الصلبة". "القوة الناعمة" حسب ناي هي: "أن تكون للدولة قوة روحية ومعنوية من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ وأخلاق، ومن خلال الدعم الذي تقدمه في مجالات حقوق الإنسان والثقافة والفن، ما يؤدي بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والإعجاب به ثم إتباع مصادره". ولعل ذلك ما جعل ناي يطلق على القوة الناعمة أنها: "الوجه الآخر للسلطة" حيث لا تستخدم "القوة" بمعناها التقليدي، بل تعتمد على الجاذبية دون الإكراه، فبإمكان الدولة أن تحصل على النتائج التي تريدها من سياستها الخارجية؛ لأن الدول الأخرى معجبة بقيمها، وتعتبرها مثال يحتذى. وهذه الجاذبية، على ما ذهب إليه ناي يمكن نشرها بطرق شتى: الثقافة الشعبية، الدبلوماسية الخاصة والعامة، المنظمات الدولية، مجمل الشركات والمؤسسات التجارية العاملة. وإذا كانت القوة بشكل عام هي: القدرة على التأثير في سلوك الآخرين بشكل يخدم مصالحك. فإن هناك ثلاثة أشكال للقوة للتأثير في الآخرين؛ فإما أن تجتذبهم بالإكراه، أو تغريهم بالمال، أو تؤثر عليهم بجاذبيتك. وتندرج القوة الناعمة تحت الشكل الثالث للتأثير. لذلك يحصر ناي القوة الناعمة لأي دولة من الدول الكبرى الفاعلة في المسرح العالمي في ثلاثة عناصر أساسية: أولا: الثقافة العامة وما إذا كانت جاذبة أم منفرة للآخرين. ثانيا: القيم السياسية ومدى جدية الالتزام بها سواء في الداخل أم في الخارج سلما أم حربا. ثالثا: السياسة الخارجية المنتهجة ودرجة مشروعيتها وقبولها الطوعي من طرف دول العالم وشعوبه بما يعزز مكانة الدولة. يقول ناي القوة الناعمة هي: "القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلا عن الإرغام، وهي القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج والأهداف المتوخاة بدون الاضطرار إلى الاستعمال المفرط للعوامل والوسائل العسكرية والصلبة، وهذا ما حصل مع الاتحاد السوفيتي، حيث تم تقويضه من الداخل، لأن القوة لا تصلح إلا في السياق الذي تعمل فيه". إن القوة الناعمة هي القدرة على الجذب والاستقطاب اللذين يؤديان إلى التراضي، ويمكن أن تجعل الآخرين يحترمون قيمك ومثلك ويفعلون ما تريده، وهي تعني القدرة على الحصول على النتائج التي يريدها المرء عن طريق الجاذبية. ووفقا لناي فالقوة الناعمة هي جعل الآخرين يريدون ما تريده أنت، من خلال المصادر المعنوية مثل الجاذبية الثقافية والقيم السياسية. ومن ثم يمكن القول بشيء من اليقين إن القوة الناعمة هي: "القدرة على التوصل إلى الغاية المطلوبة من خلال جذب الآخرين، وليس باللجوء إلى التهديد أو الجزاء". وهذه القوة تعتمد على: "الثقافة، والمبادئ السياسية، والسياسات المتبعة. فإذا تمكنت من إقناع الآخرين بأن يريدوا ما تريد، فلن تضطر إلى إنفاق الكثير بتطبيق مبدأ العصا والجزرة لتحريك الآخرين في الاتجاه الذي يحقق مصالحك". إذا القوة الناعمة كما تحدث عنها جوزيف ناي هي: القدرة على الجذب والضم دونما اللجوء للإكراه أو استخدام القوة الخشنة بمفهوميها التقليديين "القوة العسكرية والقوة الاقتصادية". وأخيرا: هذه المقالة الطويلة نسبيا هي مقدمة تأسيسية وتأصيلية لسلسة من المقالات عن كيفية توظيف واستثمار دول العالم لقوتها الناعمة في تحقيق أهدافها الوطنية.