الشخصية السوية تعلم أن العقل البشرى مهما بلغ من العلم فهو قاصر عن إدراك كل الحقائق، ومهما ثبتت صحة استنتاجاته فى أغلبية الأمور فإنه يظل معرضًا للقصور مهددًا بالخطأ، فيحرص عند اتخاذ القرار أن يتروى ويستشير ويجمع المعلومات ويتحرى صدقها حتى يخرج الرأى أقرب ما يكون للصواب، وبعد ذلك فهو يتهم رأيه بالنقص لأن العصمة ليست مكفولة لأحد، ولأن الكمال ليس من صفات المخلوقين. الإسلام له بصمة خاصة فى هذا الباب، فهو يوجه أتباعه إلى وسائل ربانية عند الرغبة فى اتخاذ القرار تحقق نسبة أكبر من الصواب، وتضمن الخروج برأى أقرب إلى الكمال، فإذا كانت الاستشارة وهى طلب الدعم من البشر وسيلة مادية يحرص عليها العقلاء حتى يتحقق لهم مرادهم فى قرار سليم، فإن طلب الدعم من الله من خصائص المسلم الذى يعلم أن المستقبل لن يتحقق فيه الخير إلا بإرادة الله، ولن يسلم فيه من الشر إلا بحفظه سبحانه وتعالى "ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء". الدعاء إلى الله وطلب التوفيق منه، وكذلك الاستخارة، وسائل شرعية أرشد إليها الإسلام فى كل أمر ذى بال، وهى بالمناسبة ليست طقوسًا خالية من المعانى، ولا ممارسات تهدف إلى استجلاب البركة، وإنما هى بالأساس أنشطة عملية ترسخ فى وجدان الإنسان حاجته الدائمة إلى العون الإلهى، وتعمق لديه الإحساس المستمر بالضعف البشرى، والهدف دائمًا هو القضاء على الاستبداد بالرأى، والتخلص من آفة التسلط وادعاء احتكار الحقيقة، والنتيجة حتمًا ستكون فى صالح المجتمع. النصيحة أحد أهم الأساليب الأخرى التى أقرها الإسلام لإشراك الجميع فى صياغة الرأى، ومساهمة الكل فى إصدار القرار، وهى خلق يتفرد به الإسلام، بها تشيع روح الإيجابية والمبادرة والحرص على المصلحة العامة، والنصيحة لأئمة المسلمين كما ذكر الرسول الكريم تجنبهم الانحراف والشطط، وتخرجهم من العزلة عن المجتمع، وتمنعهم من التفرد بالرأى، وتجبرهم على سماع كل الآراء، مما يعزز الخروج بقرارات مرضية للجماهير، معبرة عن طموحاتهم وآمالهم. بعد استنفاد الوسائل المادية واللجوء للوسائل الربانية وخروج القرار أقرب ما يكون للصواب، تبقى احتمالية الخطأ قائمة، وعندها يرغب الإسلام فى الرجوع للحق، ويدفع فى اتجاه الاعتراف بالخطأ، وينبذ السلوك المؤدى إلى العجرفة والاستكبار، الرجوع للحق خلق آخر فى المنظومة الإسلامية لدعم اتخاذ القرار. هذه المنظومة يجب أن يتعدى نفعها مستوى الأفراد إلى مستوى المجتمع والدولة، الناس يلجأون لله عند اتخاذ قراراتهم الخاصة، ويطلبون منه العون فى تسيير حياتهم اليومية، وعندما يتعلق الأمر بالحياة العامة والسياسة والحكم، يظهر كثير منهم تأففًا واضحًا من ذكر الإسلام، ويبدو عليهم الضيق الشديد من تدخل الدين، ويطالبون بتنحية الإسلام جانبًا وإخراجه من المعادلة، لماذا ترتضون الإسلام لأنفسكم وتنكرونه على الدولة والمجتمع؟، لماذا تصرون على حرمان العالم من الإسلام فى صورته الأشمل؟ إقصاء الإسلام عن الحياة العامة ليس فى صالحنا، نريد أن نستفيد من قيم الإسلام فيما يخص حياتنا ومستقبلنا نحن والأجيال القادمة، جهود كثيرة بذلت لإثبات أن السياسة عبارة عن مؤامرات ودسائس وخداع وكذب، ونحن هنا نضرب مثلاً لأخلاق الإسلام فى مجال اتخاذ القرار، الأمر الذى يحيل السياسة عندنا لرحمة وعدل وخير. والله أعلم.