عندما طعن بعض المحامين على اللجنة التأسيسية الثانية للدستور أمام القضاء الإدارى لإلغائها قررت المحكمة فى أول جلسة لها تأجيل النظر فى القضية إلى سبتمبر المقبل، ثم حدث أن توافق أعضاء التأسيسية على الكثير من مواد الدستور الجديد، وبدا أن عملية إنجاز الدستور الجديد لمصر الثورة سيتم خلال شهر أو شهر ونصف على الأكثر ويتم الاستفتاء عليه لكى تبدأ مصر مرحلة صنع حضارتها الجديدة، وهو ما يعنى إتمام الأمر كله قبل سبتمبر، وما إن ظهر إعلان اللجنة التأسيسية عن هذه الإنجازات حتى فوجئنا بمحكمة القضاء الإدارى تقرر بشكل أسطورى تغيير موعد النظر فى قضية التأسيسية لكى تقدمه من سبتمبر إلى الثلاثاء المقبل أى بعد ثلاثة أيام فقط لا غير، وهو ما اعتبر بوضوح كامل أنه تلاعب بالقضاء وأن جهة ما أرادت أن تسقط التأسيسية باستخدام القضاء وأن تقطع الطريق على إنجاز الدستور عن طريق ممثلى الشعب وليس ممثلى المجلس العسكرى، وأنه لا يتصور أن رئيس المحكمة أتاه إلهام فى ليلة صيف بأن يستعجل نظر القضية، أو أنه رأى رؤية فى منامه أوحت إليه بذلك، أو أنه وجد لديه فراغًا لم يعرف أين يقضيه فرأى أن يأتى بتلك القضية الحساسة والخطيرة لكى ينظر فيها خلال أيام بدلاً من أشهر، والمصريون فى أمثالهم يقولون: الجواب يظهر من عنوانه، والعنوان الصريح الآن يقول إن هناك "قرارًا" فى صيغة حكم محكمة سيصدر يوم الثلاثاء بإبطال اللجنة التأسيسية للدستور، وهو ما يتيح للمجلس العسكرى بموجب الإعلان الدستورى المكمل الذى أصدره خلسة أن يشكل لجنة تأسيسية باختياره هو وعلى "مزاجه" هو لكى تضع الدستور الجديد على "مقاسه" هو، لأن معضلة المجلس العسكرى أنه يدرك أن صياغة الدستور الجديد بعيدًا عنه تعرض مستقبله للخطر وقد تنهى دوره تمامًا فى المؤسسة العسكرية كما فى الحياة السياسية، لكى تعود مؤسسات الدولة الدستورية الطبيعية لممارسة مهامها، وهذه هى المرة الثانية التى يستخدم فيها المجلس العسكرى أدواته القضائية من أجل تحدى الإرادة الشعبية وتمرير خططه، فالمرة الأولى كانت عن طريق استخدام المحكمة الدستورية لإبطال مجلس الشعب بكامله من أجل حرمانه من تشكيل اللجنة التأسيسية للدستور وإتاحة الفرصة للعسكرى بتشكيلها بعيدًا عن قوى الثورة والإسلاميين حسب ما أوضحت نائب رئيس المحكمة الدستورية تهانى الجبالى فى حديثها للنيويورك تايمز، ولكن سبق السيف العزل فنجح البرلمان قبل حله بساعات قليلة فى إعلان التأسيسية الثانية، فكان أن لجأ العسكرى إلى القضاء الإدارى من أجل أن يحقق ما فاته بإسقاط التأسيسية، لأن الإعلان الدستورى المكمل الذى وضعه العسكرى يمنحه سلطة تشكيل الجمعية التأسيسية إذا تعثرت الحالية لأى سبب، وحاول العسكرى عرقلة عمل التأسيسية واستخدم شخصيات حزبية ونقابية، وتطوع رجال أعمال أسخياء لتمويل حملات الانسحاب أو الغارات الإعلامية، وكان مثيرًا للدهشة أن يقف القيادى بحزب الوفد الليبرالى وكيل مجلس الشعب محمد عبد العليم داوود، ليرد على رئيس الحزب الدكتور السيد البدوى علنًا تحت قبة البرلمان بعد أن طالبه بالانسحاب من البرلمان بقوله: لن ننسحب، وإن ساويرس لن يدير البلد والبرلمان بأمواله، كانت العبارة غريبة وتبدو خارج سياق الموضوع، ولكن داوود كان يقصد ما قاله بالضبط، وعندما تصل الأمور إلى هذا المستوى من اللعب على المكشوف فى استخدام أدوات السلطة والمال للالتفاف حول ثورة الشعب المصرى وأهدافها فى دولة مدنية ديمقراطية دستورية بحق، فإن المتوقع خلال الأيام المقبلة وعقب أن يصدر القضاء الإدارى "قراره" بإلغاء تأسيسية الدستور، أن يصدر قرارًا جمهوريًا ردًا على ذلك بإلغاء الإعلان الدستورى المكمل، لحرمان المجلس العسكرى من تشكيل تأسيسية الدستور على مزاجه، وليس من المستبعد وقتها أن يلجأ العسكرى إلى المحكمة الدستورية لإنقاذه وإلغاء قرار رئيس الجمهورية، وليس من المستبعد حينها أن يصدر رئيس الجمهورية قرارات قد تعيد هيكلة المحكمة الدستورية نفسها بموجب صلاحياته الكاملة فى ذلك والتى لم يستخدمها من باب المواءمة السياسية والبعد عن التعسف فى استخدام السلطة، والمؤكد أن هذا السيناريو الذى سيبدأ بالتلاعب بالقضاء الإدارى سيدخل البلاد فى اضطراب مؤسسى خطر، لن يكون مستبعدًا معه أن يعود "الميدان" حاكمًا ومرجعية وحيدة للحسم كما كان فى يناير 2011.