التقيت بزعيم حزب الجبهة الوطنية الفرنسى جان مارى لوبن، مرتين فى عقد التسعينيات وبالأمين العام للحزب الاشتراكى فرانسوا هولاند مرة واحدة فى عام 2007. الأول تقاعد مخلفًا وراءه ابنته مارين فى قيادة الحزب الذى يمثل أقصى اليمين، والثانى انطلق خارج التوقعات وأصبح رئيسًا لفرنسا، أتذكر اليوم هذين الاسمين على هامش الحوار الدائر فى مصر استعدادًا للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية وأنا أعود بالذاكرة تحديدًا إلى الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2002. فقد شهدت هذه الانتخابات مفاجأة مدوية بنجاح لوبن فى الجولة الأولى على حساب رئيس حكومة الاشتراكيين ليونيل جوسبان. وصعد فى مواجهته فى الجولة الثانية الرئيس جاك شيراك الذى فاز بدورة رئاسية ثانية. ومنذ إعلان نتيجة الدور الأول فى الحادى والعشرين من إبريل 2002 لم يتوانَ الحزب الاشتراكى بقيادة فرانسوا هولاند وبقية قادة أحزاب اليسار عن إعلان دعمهم المطلق لشيراك؛ من أجل عمل حائط صد أمام لوبن والحيلولة دون وصوله إلى سُدة الحكم بأطروحاته (العنصرية). لم يحدث أن وضع أى من هؤلاء شرطًا لدعم شيراك أو تردد فى إعلان هذا الدعم، وكان الكثيرون آنذاك متوجسين من نتاج الديمقراطية فى ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية، والتى صعدت بأدولف هتلر إلى قمة السلطة، إذ أن الأمر مرهون بثنائية قوامها إما شيراك والحفاظ على مبادئ الجمهورية الفرنسية وإما الانحياز إلى خيار سياسى مناقض، وانتهى الأمر فرنسيًا بفوز شيراك فى الجولة الثانية بنتيجة غير مسبوقة فى تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة بنسبة 21. 82% فيما حصل لوبن على 79.17% فقط. وأنا أسوق هذه التجربة الفرنسية لهؤلاء الذين يرون فى الواقع السياسى الغربى نموذجًا ومرجعية على صعيد الواقع والممارسة، حيث تجمعت كل القوى السياسية فى مصر من خارج الكتلة التى أيدت رئيس الحكومة الأسبق أحمد شفيق، على أن الرجل يجسد أحلام الثورة المضادة والعودة بنظام الرئيس المخلوع حسنى مبارك إلى البلاد فى ثوب جديد، ويلفت النظر فى هذا الصدد أن ردود أفعال وتصريحات صدرت فى أعقاب الجولة الأولى تضع شروطًا بل وتدعو المرشح الفائز د.محمد مرسى إلى التنازل؛ تمهيدًا لمواجهة الثورة المضادة ممثلة فى أحمد شفيق، ويبدو لى أن هؤلاء سلكوا الطريق من الزاوية الخطأ، حيث التصرف الأوفق والحال هكذا يقضى بالعمل على قطع الطريق أمام شفيق؛ لأنه الخيار الوحيد لإنقاذ الثورة بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع المنافس الذى يمثل الإخوان المسلمين، تلك هى الأولوية وهذه هى التقاليد المؤسسة لعمل سياسى أكثر نضجًا واحترامًا لخيار الناخب. ومرة أخرى أعود إلى النموذج الفرنسى لتذكير من يقولون إننا على أعتاب احتكار السلطة من قبل فصيل سياسى واحد، فقد أظهر استطلاع للرأى أجرته مؤسسة سى إس إيه وهى بالمناسبة استطلاعات قائمة على معايير علمية وليست مثل تلك التى روجها الكثيرون عندنا قبل الجولة الأولى أن نسبة 61% من الفرنسيين تريد أن تكون الأغلبية النيابية من التيار السياسى المؤيد لرئيس الجمهورية (فرانسوا هولاند)؛ لكى يتمكن من تنفيذ سياساته، ويدهشنى الحديث المستمر عن الخوف من انفراد الإخوان المسلمين أو الحرية والعدالة بالسلطة، والجميع يرى العديد من الديمقراطيات الغربية ينفرد فيها حزب أو تيار سياسى بالسلطة ما بين رئاسة الجمهورية والحكومة والمجلس النيابى. فى المقابل يجب التذكير بأن الفائز يلجأ فى حالات معينة إلى التحالف مع بعض القوى ذات الثقل الشعبى فى تشكيل الحكومة. إن اللحظة الراهنة لحظة فارقة فى عمر الثورة يجب العمل فيها بروح تدعم خيار الناخب وتتخلى عن المصلحة الذاتية حتى لو أدى ذلك إلى التعاون مع فصيل مخالف فى طرحه ومبادئه، وإلا فالبديل هو العودة إلى مبارك وأيامه.