على مدار يومين متتاليين قام الطيران الحربي المصري بضرب مواقع قيل أنها لمتشددين في مدينة درنة في شرق ليبيا ، وقال البيان أن الضربة الجوية تأتي ردا على جريمة مقتل المواطنين الأقباط في حافلة المنيا ، وجاءت الضربة في سياق تهديد الرئيس عبد الفتاح السيسي بملاحقة الإرهابيين أينما كانوا ، داخل مصر أو خارجها ، وقد بدا على الرئيس لهجة الحسم والغضب الشديد . ملاحقة الإرهاب وضربه ضرورة أمنية وعسكرية ، خاصة في ظل توحش الأعمال الإرهابية وتحول عملياتها إلى مذابح جماعية حقيقية لا تلوي على دين أو خلق أو إنسانية ، ولكن المهم في هذا السياق أن نذهب بالضربة إلى العنوان الصحيح ، وليس العنوان الخطأ ، وأعتقد أن الضربة التي تمت أمس واليوم في مدينة درنة الليبية ذهبت إلى العنوان الخطأ ، وقد استبان الخطأ أكثر بعدما أعلن تنظيم داعش الإرهابي عن مسئوليته عن عملية حافلة المنيا ، لماذا كانت درنة هي العنوان الخطأ ؟ ، ببساطة لأن درنة هي المدينة التي قهرت داعش ، وخاضت مع هذا التنظيم الدموي معركة عنيفة للغاية قبل سنتين ، ونجحت في سحقه وإلحاق الهزيمة به ، وفر من بقي من أعضاء التنظيم في صحراء ليبيا الشرقية لينتقل إلى مناطق في الجنوب ووسط ليبيا ، فما معنى أن نقوم بضرب درنة وثوار درنه ، رغم أن معركتهم كانت ضد العدو الذي نحاربه ، والتنظيم الذي تسبب في المذبحة ؟ ، إن المنطق يقول أن هؤلاء حلفاء لنا وليسوا أعداء ، إلا أن تكون الحسابات السياسية هنا معقدة أكثر من اللازم ، ويدخل فيها حسابات أبعد من الإرهاب وجرائمه . أيضا ، مدينة درنة التي تم قصفها محاصرة من جميع جوانبها بقوات الجنرال خليفة حفتر ، وهي قوات حليفة لمصر ، ولا يدخل أحد إلى درنة ولا يخرج أحد إلا بموافقة حفتر وقواته ، بل إن وقود السيارات ومستلزمات السيارات لا يحصل عليها أهل درنة إلا بتصريح من قوات حفتر التي تحاصر المدينة ، فلو صح أن هناك سيارات دفع رباعي أتت من درنة بإرهابيين واستهدفت المنيا أو غيرها في مصر ، فالمسئول عن ذلك حفتر وقواته ، وليس الشباب المحاصرين في المدينة . مصر تعاني حقيقة من تصاعد أعمال الإرهاب ، ومن الواضح أن السنوات الماضية كانت سنوات الحضانة والتكوين وترتيب الأوضاع والدعم اللوجستي لخلايا الإرهاب ، وأن الأوقات الحالية هي أوقات التنفيذ والضرب والتمدد ، وهذا يعني أننا الآن في أحرج لحظات المواجهة مع الإرهاب ، كما يعني هذا أن الأجهزة الأمنية استرخت بما لا يليق مع خطر تشكل خلايا الإرهاب طوال السنوات الماضية ، أو أنها استنزفت طاقاتها في أمور وهموم لم يكن لها أي أولوية حقيقية للأمن القومي المصري ، وتركت الأهم ، وهو الإرهاب ، يشكل خلاياه ويؤسس حواضنه بهدوء ، والحديث عن التقصير الآن لا يعني مجرد تحديد المسئوليات ولا إلقاء التهم ، فهذا لن يفيد كثيرا عما مضى ، ولكن الأهم هو استنفار الطاقات الأمنية في منظومة جديدة وحديثة ، تعتمد على خبرات الدول المتقدمة في المتابعة والرصد والتحقيق ، فمن الواضح أن الأدوات والأفكار والأساليب المستخدمة في مصر حاليا هي من ميراث خبرات قديمة بالية وعفا عليها الزمن . التفكير في المسار الأمني وحده لن يفضي إلى شيء ، تلك حقيقة نقولها ونكررها ، نصحا للوطن وتبصرة للقيادة السياسية ، لأن ما نعانيه الآن ليس خطرا يهدد النظام وحده ، بل يهدد الوطن كله ، واندفاعنا في هذا الطريق هو وقوع في وحل الاستنزاف بلا أفق للحل ، وأخشى أن تكون ملامح الغضب التي بدت على الرئيس والتهديد بالثأر والضرب والملاحقة ، معبرة عن أحادية التفكير في مواجهة هذا التحدي ، الحل الأمني هو جزء مجرد جزء من منظومة الحل ، ولا بد للقيادة السياسية أن تقدم رؤية جديدة مختلفة لإدارة شئون البلاد ، لا بد من الانفتاح وتوسيع هامش الديمقراطية والحريات ، وفتح النوافذ السياسية والثقافية والدينية والأهلية للشباب للمشاركة وتنفيس الطاقات والالتحام مع قضايا الوطن وبنائه ، لا بد من ضبط الدولة يا ريس ، وترسيخ فكرة المؤسسية ، واحترام استقلال السلطات ، البركة الآسنة الراكدة هي التي تتحول إلى مستنقعات لنمو كل الديدان والأخطار المدمرة للإنسانية ، ونهر الحياة المتدفق والمتجدد هو الذي يحمي من تلك المخاطر ، ويطهر الحياة من تلك الآفات ، ويمنع صناعة المستنقعات الحاضنة لكل هذه الكائنات المدمرة . [email protected] https://www.facebook.com/gamalsoultan1/ twitter: @GamalSultan1