عندما هبطت هيفاء وهبى وأخواتها للقاهرة هرع إليهن المؤلفون والملحنون ومنحوهن أفضل ما لديهن فأصبحن نجومًا ولم تبخل منهن على تصوير الأغنية الواحدة بأكثر من كليب وإهدائه مجانا للفضائيات فصرن بحكم التكرار على الأذن واعتادت العيون على هذا التلوث البصرى ومعه اختفت الأغنية المصرية والأصوات الجميلة وفجأة تسللت المسلسلات التركية زاحفة للوجدان المصرى والعربى بالديكورات المبهرة والنساء الشقراوات وقيم الشطر الأوربى عند أسطنبول وكادت المسلسلات المصرية تختفى وبين هذا وذاك كانت الأموال الخليجية تدعم الدراما التاريخية السورية ليس حبًا فى الفن الشامى ولكن لحجب الإبداع المصرى وفى بدايات الأمر قامت السعودية بإنشاء شبكات تليفزيونية، الأوربيت والإيه آر تى وmbc ، وبعدها كان الحكى المصرى هو الأحلى ولغة العرب الرسمية، صار الغنج اللبنانى هو لغة البنات ومعه صارت بيروت قبلة النفخ والشفط والسليكون حتى المطبخ المصرى صارت سوريا تقدمه بأفضل وأنظف الطهاة. فى هذا الوقت لم تكن القاهرة تنتج سوى شعبان عبد الرحيم والليثى وهنيدى وجمال مبارك وأعوانه والحزب الوطنى وأحمد عز وأنس الفقى وممتاز القط وأسامة سرايا وكان هؤلاء يشبهون صاحب النظام، فكل رجال يشبهون العصر الذين يعيشون فيه ولم يستحِ وزراء هذا العصر وهم يفتخرون بأنهم نجحوا فى لم النخبة والمثقفين فى حظائر وزاراتهم وهكذا تم ضرب السوفت وير المصرى مع سبق الإصرار والترصد من الخارج، كما تم ضربه من الداخل باختيار الأقزام حتى لا تصبح هناك قامة فى أى موقع أكبر من قامة الوريث ومثلما تم ترويض القوة الناعمة تم ترويض القوة الصلبة المصرية وما حدث هنا حدث عندما أسقطت واشنطن الاتحاد السوفييتى بالبيبسى كولا وأفلام الكاوبوى والنماذج الرأسمالية المبهرة بمراكز "الثانك تانك" التى تسللت بنعومة لعقل الإمبراطورية السوفييتية والغريب أن المخططات لم تكن سرية بل كانت علنية ومنها مشروع الشرق الأوسط الكبير الذى تعاملنا معه بمنتهى الخفة والاستهزاء؛ لأن النظام الرخو وقتها لم يكن يعنيه ضعف الدولة بقدر حرصه على قوة النظام. صحيح أن الهاردوير للقوة المصرية الناعمة لا يزال كما هو تجربة ليبرالية هى الأقدم فى المنطقة وتجربة الإخوان الممتدة بطول 80 سنة التى صاغت تجربة إسلامية، اختلف البعض معها أو اتفق، والأزهر الشريف كمنبر للإسلام الوسطى وهناك الكنيسة المصرية بتميزها وتفردها عن كنيسة روما ثم الجامعات وجيش العلماء والأساتذة والجيش المصرى الممتد بطول 7 آلاف سنة منذ نارمر موحد القطرين والسينما المصرية والمسرح ودار الكتب والصحف والفضائيات والفنانون المبدعون والإعلاميون والمثقفون ومؤلفو الأغانى والملحنون والمخرجون والمدارس السياسية والأحزاب. ثم الأهم الموقع الجغرافى هبة الله لمصر ، صحيح أن الجغرافيا لا تحافظ على الدور التاريخى إذا ظل كسولاً، ولكن لا يزال الهارد وير على الأرض، غير أن المهم فعلاً أن تلك الأرض مر بها الخليل إبراهيم وتزوج منها السيدة هاجر التى أنجبت له النبى إسماعيل، وجاء إليها سيدنا يوسف ونشأ بها سيدنا موسى وجاء إليها المسيح، ومنها تزوج الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم من السيدة مارية وأنجب منها ابنه إبراهيم ليصبح المصريون أخوالاً للعرب والمسلمين، وهكذا شاء البعض أم رفض، فإن هذا البلد هو مصنع للتاريخ ومهد للحضارة وهو الذى وضع أول نواة فى صناعة التاريخ البشرى ديناً وعلماً واقتصاداً وفناً وحضارة، ثم كانت مصر هى خط الدفاع الأول بقيادة قطز لاستئصال المغول ثم كانت قوى التحدى والتصدى للحملة الصليبية الثالثة واستعادة بيت المقدس والأمر المؤكد أن أى مصرى يعمل بالعمل العام لم ينجُ من حملة التصفية والتشويه المنظم منذ يناير العام الماضى فى إطار خطة محكمة للقضاء على رموز القوى الناعمة سواء من السياسيين أو الإعلاميين أو الفنانين أو حتى مؤسسات كانت لها هيبتها ومكانتها، وللأسف استجاب البعض بسفالة وأصبح أشد وطئاً على كل ما هو مصرى، وعندما يتذكر المرء رموز مصر الذين كانوا مظلة أمان وضوءًا على المنطقة ويقارنهم بنجوم المشهد الراهن يكتشف المسافة والمسافة الزمنية، ففى الصحافة كان هيكل وبهاء والحمامصى ومصطفى وعلى أمين وموسى صبرى والتابعى وكامل زهيرى وفى الأدب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان ويحيى حقى والسباعى والعقاد وطه حسين وفى الشعر شوقى وإبراهيم وعبد الصبور ودنقل وعفيفى مطر ومحمود حسن إسماعيل وفى كلمات الأغانى حجازى وجاهين ومرسى جميل عزيز وحسين البر والأبنودى وفى الهندسة عثمان أحمد عثمان ومحرم والعبد وعلام وحسن فتحى ومحمد كريم وفى الطب على إبراهيم والمفتى وإبراهيم بدران وفى التلحين عبد الوهاب والقصبجى وزكريا أحمد والموجى والطويل وبليغ وعلى إسماعيل وفى الإخراج صلاح أبو سيف ويوسف شاهين وبركات وفطين عبد الوهاب وفى التمثيل شادية وفاتن وسعاد ومريم وهند رستم ومحمود مرسى وعماد حمدى وشكرى سرحان والمليجى وأحمد مظهر والمهندس ومدبولى ورشدى أباظة وأحمد زكى وفى الغناء أم كلثوم وفريد وكارم محمود وقنديل وعبد الحليم وطلب وفايزة ونجاة وفى البرلمان ممتاز نصار ومكرم عبيد والقاضى وعلوى حافظ وإبراهيم شكرى وعادل عيد ومن الوزراء حلمى مراد والكفراوى ومنصور حسن والجويلى وأبو العطا وإسماعيل صبرى عبد الله والعطيفى وصدقى سليمان وعزيز صدقى ومصطفى خليل ومن المحامين الخواجة والبرادعى والشوربجى وعبد المنعم البدراوى ومن أساتذة الجامعة أحمد لطفى السيد وحامد ربيع وزكى نجيب محمود وعثمان أمين ومصطفى سويف وعبد الملك عودة وبلبع وجمعة الجرف وحامد عمار ولويس عوض ومندور، وفى التلاوة كان المنشاوى ومصطفى إسماعيل وعبد الباسط والطبلاوى وأعرف أن كثيرًا من الأسماء التى ذكرتها ستعرضنى للسب والقذف.. فقط استعرضت بعض الأسماء لتعرف أين كنا وأين أصبحنا، وأردت القول إن الانهيار مهما كانت المؤامرات الخارجية يبدأ من داخل، عندما تنهزم القوة الناعمة "السوفت وير"، فيأتى عدوها ويطلق عليها رصاصة الرحمة ويعطيها من عالم لم تعد تنتمى له، فقد اندثر الخرتيت وهو من أفخم خلق الله؛ لأنه لم يتكيف ويتطور مع عالمه، بينما استمرت النملة؛ لأنها تكيفت وأبدعت فى التطور فى مملكتها!