لاشك أن من أهم أسباب ما نعانيه الآن فى مشهدنا العربى والمصرى من تفكك وخلاف وصراع إنما هو بسبب ما أصاب قيمنا وهويتنا من تصدع، ليست هذه هى المشكلة، إنما المشكلة فى أن الأخطر ما هو قادم، إن لم ننتبه ونتحرك سريعًا. توقفت جهودنا الفكرية والتربوية عند حد الإجابة عن سؤال ماهية القيم وأهميتها؟ وأسهبنا وأفرطنا فى ذلك كثيرًا، ولم نتقدم للإجابة عن أسئلة 1 كيف نخطط القيم على مستوى الفرد والمدرسة والمؤسسة والمجتمع والمرحلة التاريخية؟ 2 كيف ننشر ونبنى ونعزز ونمكن القيم فى حياة الفرد والمجتمع؟ 3 كيف نترجم القيم النظرية إلى سلوك ومهارات عملية معاصرة بحسب طبيعة الشخص والظرف والمكان والمجتمع؟ فتآكلت ثم غابت وتلاشت الكثير من القيم الحاكمة، وتركت ساحة القيم خالية من فرسانها المفكرين والمخططين، وترك المنفذ التربوى وحده فى مواجهة آلة القيم والهوية الغربية الضخمة بمؤسساتها الفكرية والتخطيطية والتنفيذية، فتم إحلال الكثير من قيمنا الحاكمة وضاع جزء كبير من هويتنا، الخطير فى الأمر أن الجزء الذى ضاع من هويتنا تم إحلال جزء غريب بل ومعادٍ مكانه. ومن أهم قيمنا الحاكمة التى تآكلت ثم تلاشت وغابت قيم حب العلم والمعرفة والبحث العلمى، وقيمة الحرية وإطلاق مواهب وملكات الفرد نحو الإبداع والابتكار، وقيمة الحب والتعاون والجماعية المؤسسية، وقيمة الابتعاث الحضارى والإحساس بأمانة ومسئولية الدعوة والإصلاح وتعمير الكون بقيم السماء وتكنولوجيا الحياة. الخطير أن هذه القيم الأربع الحاكمة غابت وحل محلها قيم الاستبداد المفضى للظلم والقهر وكبت ملكات الإنسان، ومن ثم الضعف والتخلف والتبعية، وقيمة الفردية والأنا المفضية إلى الاختلاف والصراع، وقيمة التقليد المفضى إلى التبعية المهينة وترسيخ إحساس الانبهار بالآخر ودونية الذات، وقيمة السلبية واللامبالاة الناجمة عن غياب الرؤية والمهمة والرسالة. أهم وأخطر الإشكاليات التى نعانى منها فى مجال القيم والهوية لاشك أن لدينا جهودًا مخلصة لإحياء القيم تتبناها أحيانًا بعض وزارات الأوقاف وربما بعض المؤسسات التربوية والإعلامية، ولكنها ضعيفة جدًا ومفككة وتفتقر لمنطق فعل رابط وخطوط إستراتيجية طويلة الأجل ترسم وتحدد ملامح العنصر البشرى المستهدف، وتنظم وتصف مصفوفات القيم اللازمة لإنتاجه وتضع لها الخطط التربوية الممتدة لإنتاج هذا الجيل المستهدف. كما أننا نفتقر وبشكل كبير أصبح فاضحًا، ولا يجوز لأمة تريد أن تنهض ألا تمتلك بنية تأسيسية واضحة لتخطيط وتمكين واستثمار قيمها وهويتها الخاصة. أولا: الافتقار إلى البنية التأسيسية لتخطيط القيم وصناعة واستثمار الهوية فى العوالم الثلاثة (الأفكار، الأشخاص، الأشياء). هل يعقل أننا نعيش بلا وزارة ولا هيئة ولا مؤسسة معنية بتخطيط القيم والهوية فى حين أن أجهزة الأمن القومى فى الدول الحديثة ربعها يمثل محور القيم والهوية، كما أن فلسفة ومهام عمل وزارات التربية والتعليم والثقافة والإعلام بها تتمحور حول تضخيم وتعظيم هوية الذات، حتى وإن لم تكن صادقة فى ذلك بدعوى الحرص على قوة وصلابة ووحدة الأجيال القادمة هل يمكن أن نتخيل أن الأمة العربية والإسلامية لا تمتلك مرصدًا ولا مركزًا للبحوث والدراسات المتخصصة فى القيم والهوية فى حين أن إيران وحدها تمتلك عشرين مركزًا، منها أربعة من المراكز المصنفة عالميًا فى مجال تخطيط القيم وإدارة واستثمار الهوية، والتى تدعم القرار السياسى الإيرانى فى أعلى مستوياته. ألفت الانتباه إلى أننا فى مجال تخطيط وبناء القيم فى حدود علمى وما بذلته من جهد بحثى خلال السنوات السبع الماضية لا نمتلك شيئًا يذكر إلا ما اجتهدت فيه بشكل فردى وأصدرته (أسس مهارات بناء القيم التربوية، القيم التأسيسية فى بناء الشخصية القرآنية المعاصرة هوية مصر الحديثة) ثانيا: غياب التفكير والتخطيط الإستراتيجى فى مجال القيم والهوية والركون إلى الأفكار والخطط والجهود الجزئية المفككة القصيرة. ثالثا: فى مقابل الآخر المتترس بترسانة متكاملة من مراصد القيم ومراكز البحوث والدراسات المتخصصة فى مجالات الغزو الثقافى وتفكيك وإعادة تركيب قيم وهويات المجتمعات والشعوب، فيما بات يعرف بالقوة الناعمة لإخضاع إرادات الدول الأخرى مما جعلنا منطقة ضعف وفراغ جاذبة لقيم وهويات المجتمعات الأخرى، وحقول تجارب وميادين منافسة خصبة للخطط والمشروعات الثقافية للقوى العالمية الكبرى (الثقافة الأمريكية، الروسية، الصينية، الإيرانية، الفرنسية، التركية). دورة حياة تخطيط القيم صناعة وإدارة واستثمار الهوية فى الدولة الحديثة تمر دورة حياة تخطيط القيم وصناعة واستثمار الهوية بمراحل أربع، متواصلة ومتكررة على مدار الوحدة التخطيطية ( عام / عشرة أعوام) مراصد السلوك والقيم أجهزة التفكير والتخطيط الجامعات ومراكز البحوث وصناعة الأفكار الوزارات والأجهزة التنفيذية وذلك ما تقوم به الدول الغربية والآسيوية الحديثة حيث تتعدد أشكال مؤسسات تخطيط القيم وصناعة وإدارة الهوية والمحافظة عليها من خلال خبراء متخصصين يعملون فى عدة مستويات المستوى الأول: الأجهزة الرسمية للدولة فى قمة هرمها التنظيمى فى مجلس الأمن القومى. المستوى الثانى: الأجهزة التنفيذية (وزارات الثقافة والإعلام والتربية والتعليم) المعنية بتنفيذ توجهات وخطط أجهزة الأمن القومى. المستوى الثالث: الأقسام المتخصصة بالمعاهد العلمية والجامعات. المستوى الرابع: مراكز البحوث والدراسات الخاصة المتخصصة فى مجال العلوم الإنسانية.