لا تنشغل همًا بالقانون أو بأحكام القضاء، فما عليك سوى أن تحشد أنصارك فى الشوارع والميادين لتبث الرعب فى قلوب خصومك، وربما بعض أجهزة الدولة المرتشعة، خاصة إذا فكرت تلك الأجهزة فى تطبيق القانون عليك، وحبذا لو كانت لديك بعض المِنصَّات الإعلامية تطلقها على الجميع، ويفضَّل أن يكون لديك جيش من المخبرين الإليكترونيين الذين يسبّون خصومك على الشبكة الدولية للمعلومات "الإنترنت"، ويتعقبونهم إذا ذكروا اسمك بسوء، وأن تتمتع بفريق من المتصلين الدائمين بالبرامج الفضائية، عندها ستكون ملء السمع البصر، وسيخشى الكل الاقتراب منك، وأرجو أن تتأمل معى الأمثلة التالية والتى تكشف لك حجم الالتباس الحاصل فى حياتنا الآن، لدرجة تتوه معها الحقائق: 1- محكمة القضاء الإدارى تنعقد للنظر فى قضية جنسية والدة المرشح الرئاسى حازم أبو إسماعيل، لكن أنصاره يحاصرون جنبات المحكمة بحشود تجاوز عددها الخمسين ألفًا، فما هى الرسالة التى يريد مرشح الرئاسة أن يبعث بها للمحكمة أو بقية سلطات الدولة؟، وما هو شعور القاضى (وهو بشر يتأثر بما حوله من أجواء) أثناء نظر القضية وما مدى تأثير تلك الحشود فى حكمه؟! 2- أصدرت المحكمة التى تنظر قضية موقعة الجمل قرارًا بضبط وإحضار المتهم مرتضى منصور، وعندما جرى تحديد موقعه، تظاهر أنصاره بالمئات واحتشدوا لإعاقة وصول قوات الشرطة، مما سهَّل له الفرصة للهرب من أبواب خلفية. 3- وافق نواب البرلمان على إصدار قانون عزل الفلول، وبعيدًا عن اللغط الذى أثاره القانون، من حيث توقيت صدوره ومدى دستوريته وانتقائيته، وعلى الرغم مما يمتلكه حزب الحرية والعدالة من أكثرية برلمانية دفعته للقول بأن الشرعية للبرلمان وليس للميدان، إلا أن جماعة الإخوان المسلمين قررت حشد أنصارها فى ميدان التحرير لإخراج عمر سليمان من الترشيح، على الرغم من أنها هى التى أصدرت قانون العزل، وهى نفسها التى رفضت مليونيات الميدان. 4- عقب مجزرة استاد بورسعيد وضغط الرأى العام، اجتمعت لجنة العقوبات باتحاد الكرة وأصدرت حكمها بتجميد نشاط النادى المصرى لمدة عامين، لكن مجلس إدارة النادى الأهلى رفض العقوبة، وطالب إنزال المصرى إلى الدرجة الثالثة أو شطبه (كده خَبْط لَزْق)، ثم أعلن عدد من نواب البرلمان عن بورسعيد الاعتصام فى مجلس الشعب، إذا صدر قرار شطب النادى المصرى أو إنزاله لدرجة أقل، المعتصمون هم النواب الذى يشرعون للشعب القوانين، لكنهم بهذا التصرف لا يحترمون القانون وأحكامه. 5- استبعدت اللجنة العليا المشرفة على الانتخابات الرئاسية عشرة من مرشحى الرئاسة، وذكرت أسباب الاستبعاد، ثم حددت (وفق قانون عملها) يومين للطعن على القرار، لكن عددًا من المستبعَدين رفضوا القرار، وأعلنوا تسيير المظاهرات فى الشوارع، مهددين بعدم حدوث خير بالبلاد إذا استمر قرار الاستبعاد، رافضين الامتثالَ واحترام أحكام وقرارات اللجنة التى ارتضاها مرشحو الرئاسة، بدلالة التقدم لها بأوراق الترشح! ورغم ثورة المصريين العظيمة التى أسقطت دولة الظلم لإقامة دولة العدل، وأساسها احترام أحكام القضاء، لكن الحاصل أننا أصبحنا نعيش فى غابة وليست دولة قانون، فالكل يريد إعداد قانون تفصيل على مِزاجه، وإذا استمرت الأحوال على هذا المنوال فالمؤكد أننا فى طريق النهاية، فقد خرجنا من عباءة حكم مبارك الذى كان يستهين بأحكام القضاء ولا ينفذها، إلى كثرة مؤثرة ونافذة لا تريد إعمال دولة القانون، والمأساة أن من بين هؤلاء مرشحين للرئاسة ونوابًا بالبرلمان وشخصيات عامة ورجال قانون، ولا يمكن أن ننهى دون الإشارة إلى الاعتداء الذى طال العدالة المصرية فى قضية التمويل الأجنبى، عندما تعدت السلطة بالبلاد وتدخلت فى أحكام القضاء؛ كى يُصدر حكمًا بالإفراج عن المتهمين الأمريكان وعودتهم إلى بلادهم، وإذا كان هذا هو أداء السلطان فلا تلومنَّ الرعية إذا سارت على دَرْبه. دولة العدل والقانون مهددة فى مصر إذا لم ننتبه، وإلا فالطوفان.