"أين قبر ابني.. ابني ليس له قبر " .. عبارة تشق قلبك بالسكين، تخرج بجماع دم الشريان وعرق العمر وأسى السنين، تستجمع زفراتها من أنات قلب مكلوم في صدر أم ثكلى فقدت بهجة حياتها في البحر المتوسط في جغرافيته، الأبيض في شماله، الأسود في جنوبه.. العميق في قسوته عمق الأمومة المتأوهة في لظى الفقدان.. وهي تبحث عن ابنها بين جثث الغرقى لا تجده... لكن الحقيقة أن مئات الألوف من البشر يعيشون بلا بيت ويموتون وليس عندهم قبر... نعم كثير من الناس يحق له أن يقول "ليس عندي قبر".. ليس عنده قبر؛ لأنه يعجز عن شراء قبر، أو لأنه بات حيث لا قبر.. عبارة – لا شك - لاذعة الطعم، لافحة الوقع، حراقة الأثر، فاحمة اللون، ثائرة الحرف.. تتصدرها وسادة جدران "اللام" بكآبتها وتتمدد في سراديب خنادق الراء بانسياباتها المتحدرة.. وردت هذه العبارة على لسان عدد من أبطال تراجيديا ”اليوم السابع“، للروائي الصيني المبدع "يو هوا"، ومنحنا مذاقها العربي وشجنها الإنساني رائد الدراسات الصينية في العالم العربي الدكتور عبد العزيز حمدي، في ترجمتها المباشرة عن الصينية للعربية حيث يولد بطلها في الصين .. لكنه يعرض حياة ملايين الأبطال من ضحايا التوحش الغربي في العصر الحديث في أفريقيا وآسيا والشرق.. يولد الفقير والحيرة في عينيه .. تشرق طفولته في فضاءاتها القاتمة .. وتغرب سني شبابه في غيابتها المظلمة، ويرحل غير مأسوف عليه وأصابع الفساد العطنة تغتسل في دماه الطاهرة.. يولد البطل هذه المرة في مرحاض قطار شعبي.. تقذف به حمم الفقر وحمم الزحام وحمم القدر إلى فوهة المرحاض السفلية ليتوسد الوهاد الصامت بين مساري القطار، ويتربى في بيت عامل التحويلة البائس بعد أن ركعت أمه في دماها، وشق القطار طريقه بلا أمل .. لنرصد حياة أخرى من حيوات الإنسان في العالم الثالث... يتخرج الفتى ويتعرف على أمه في قصة درامية ملهمة، لكنه في النهاية يفر من زحام عشوائيات أمه وأبيه المزدحمة بمحن أخيه زوجته، وشجارات أخته وزوجها الذين يعيشون في شقة واحدة، ويعود إلى عامل التحويلة الذي منحه من فقره وشبابه وقلبه، وعاش بلا زوجة ولا ولد من أجله .. يتزوج البطل من فتاة الأحلام لكنها في النهاية تبيع فقره وتشتري الثراء... يمرض والده الفقير ويثقل به المرض، ويقرر الرحيل حتى لا يثقل الابن الذي عاش معه تجربة حجرة عامل التحويلة.. يخرج الفتى يجوب الشوارع.. يسأل الحجارة عن والد لم يلده.. عن إنسانية الفقير في عصر الوحوش الآدمية الفاتكة.. وأخيرا ينال منه التعب الهالك كما يفعل به كل يوم.. يأوي إلى مطعم فقير، يأكل شيئا يتقوى به، ينظر الجريدة الملقاة أمامه، فيجد صورة طليقته الحبيبة التي هجرت حبه القديم، وعشقه الدافيء، وطلقت من فقره، والتحقت بمعبد المال لتدرك حظها فيه .. يطالع صورتها.. المطعم يحترق من حوله.. لكنه معها، لا يزال قلبه كما هو، صاحب المطعم مشغول بجمع النقود من الزبائن خوف الإفلاس ولو كان الثمن موتهم جميعا.. صاحب المطعم الفقير وأسرته .. والزبائن .. والبطل العاشق التائه في نهر ماضيه؛ حيث ترقد في أمواجه زوجته الهاجرة التي فضلت جلبة معبد المال على قدسية معبد الحب، وقطعت تذكرة بجمالها إلى الانتحار.. ثم يطفو على سطح ماضيه عامل التحويلة الذي فر بمرضه مخافة أن يجلب له الفقر والعنت بمرضه وعجزه.. يلقى البطل حتفه في الحريق وينهي تراجيدا الحياة الدنيا .. لكنه عندما يمضي إلى "مؤسسة الخدمات الجنائزية" يعجز عن العبور إلى الراحة الأبدية؛ لأنه "ليس عنده قبر".. فيمضي إلى مدينة الموتى الذين لا قبر لهم... لنحيا في شوارع وطرقات مدينة الموتى مع الفقراء ممن بخلت عليهم أوطانهم بالحياة.. فماتوا في حرائق الإهمال، وكوارث الفساد، وقطعتهم سكاكين الفقر .. ثم بخلت عليهم بالقبر فلا رثاء لهم أحياء ولا أمواتا.. ومن عجب الخيال الصيني أن الأغنياء لهم كراسيهم الوثيرة ومقابرهم الخاصة حتى في العالم الأبدي، بينما الفقراء يعيشون مأساتهم في الأولى والآخرة، فتذهب لحومهم وتتناثر هياكلهم العظمية آن بعد آن، وإن كانت مدينتهم الأخروية جميلة ومترامية وواسعة سعة مشاعرهم فيها بالقرب والألفة في مصارحة بمآثر الفقر ونقائصه وفواجع الأقدار في حياتهم الواعية التي تمخر عباب ماخور فساد أسود يعطن قلوب وأنوف العالم الثالث.. يلتقي البطل في يومه الرابع في مدينة الموتى بامرأة جميلة كان يعرفها عندما كان يسكن في عشوائيات الفقر حيث الناس كالجرذان يتشاركون حياتهم في عبث.. يعملون طوال اليوم ثم يعودون هلكى يطبخون معا ويأكلون معا وينامون معا تحت الأرض. دفعت هذه الجميلة حياتها ثمنا لحلمها الغربي بتملك "محمول جديد نفيس" .. حتى إنها كانت ترغب في الذهاب لملهى ليلي كى تضاجع الثراء وتصبح من رواد معبد المال لكن حبيبها الذي شاركته الفقر وتسولت العيش من أجله.. وتجرعت معاه كئوس الراح والترح.. ليس بلا شهامة كحبيب صديقتها.. يضربها على تفكيرها في الملهى الليلي.. يضربها حبا وعشقا وخوفا ثم يضرب رأسه في حائط العجز قهرا وفقرا .. ويعدها ويعدها بهاتف جديد .. وأخيرا يهديها جهاز "محمول" غير أصلي.. لعجزه عن شراء محمول حقيقي، ويذهب الحبيب لزيارة والده الريفي المريض وتكتشف غشه لها، وترسل حبيبته الرسالة بعد الرسالة، دون رد، فصاحبها مدين وهاتفه الخلوي موقوف... وأخيرا ترسل إليه في الهواء كغالب أحلام الفقراء الحقيرة في عالمنا الحقيرة رسالة أخيرة: "أكرهك" وتقرر الانتحار, وعندما يعود، ويعلم بموتها يبكي عليها بحرقة.. وربما علينا جميعا.. ثم يبحث عمن يشتري "كليته" حتى يشتري لها قبرا لتستريح في الحياة الأبدية وفق الاعتقاد الصيني، لكنه بعد أن يبيع كليته يمرض، وينتشر الألم في جسده، لكنه لا يذهب إلى المستشفى لأنه لو ذهب سيدفع ثمن الكلية كله للعلاج.. يصر الفتى أن يمضي ثمن "الكلية" لشراء قبر حبيبته وشراء شاهد العشق منقوشا عليه لوحة من أحلام الفقراء الميتة "قبر الفتاة شوميي التي يعشقها وو تشاو".. ثم ليمض هو إلى الموت .. ولينضم إلى مدينة الموتى بلا قبر.. كما عاشوا في وادي الحياة موتى بلا حياة.. يتردد نموذج "الميت بلا قبر" في عصر الفساد العربي المعاصر في صورة شاعرية عربية، ومن زاوية أخرى تخالف الرواية الصينية، رسمتها قيثارة الشاعر المصري فاروق جويدة في رائعته "ماذا أصابك يا وطن" حيث يغيب القبر في رحلة العودة إلى الوطن .. بعد محنة الرحيل والغربة، وكان "عمي فرج" رمزا اختاره جويدة لضحايا سفن الفساد التي تمخر طول الأرض العربية وعرضها في رحلة العرق والغربة والصبر الطويل هربا من جحيم الفقر اللاهب.. عندما جنحت السفينة للغرق كان عمي فرج بين الضحايا .. "كان يغمض عينه.. والموج يحفر قبره بين الشعاب... وعلي يديه تطل مسبحة ويهمس في عتاب.. الآن يا وطني أعود إليك.. توصد في عيوني كل باب.." ثم يصرخ عمي فرج ومعه ملايين العرب والمشرقيين ... "لم ضقت يا وطني بنا..." إنني أستمع الآن إلى صراخ أطفال الطين في قرى مصر.. وشباب الملح في أزقتها الضيقة بأحلامهم.. جيل تعود منذ يفاعته طعم الملح ولذوعة العرق.. جيل لم يسكن في المكان الذي حلم به، ولم يشتر السيارة التي تحدث عنها مع رفاقه مرارا، ولم يشغل الوظيفة التي تعلم السهر لأجلها عشرين عاما، ولم يتزوج المرأة التي كتب فيها أشعاره، وبكى بحرقة يوم زفافها لغيره، فبكاها وبكى في ضياعها أيامه.. أعرف آباءهم بأياديهم الخشنة، وظهورهم المحنية، وعشقهم لتراب الوطن.. أعرف أمهات الملح يتوكأن الهموم، ويتحملن الفاجعات، ويرملن في شدائد الحاجة.. لكنهن لا يسقطن... يفلحون سواد الأرض بمعاول البأس والصبر؛ فتخرج فاكهة القصور ولذة أهل الراحة .. أعرف أكواخهم الفقيرة .. ألوانها الباهتة كجلودهم.. أتلمس لبناتها القديمة كتعاجيد جباههم القديمة...أشم أخشابها القديمة وهوامها القديمة.. لكن ريح إبائهم لا تزال طازجة وطهر نفوسهم طاهر، وعفاف قلوبهم بكر لم يتوسدها خليع. "لم ضقت يا وطني بنا"، لعلهم يدندنون بكلماتهم الصغيرة في قبرهم الفسيح الممتد بلا نهاية إلى أمواج البحر ولعلها تجيبهم.. ملايين الأحلام الميتة من السوادن وأريتريا والصومال وسوريا والعراق واليمن تجاوبهم وتردد أنغام "جويدة" الرقراقة وألحانه الباكية وهي تبكي معه مرثية أوطاننا: "قد كان حلمي أن يزول الهم عني.. عند بابك .. قد كان حلمي أن أري قبري علي أعتابك.. الملح كفنني وكان الموج أرحم من عذابك.. ورجعت كي أرتاح يوما في رحابك.. وبخلت يا وطني بقبر يحتويني في ترابك.. فبخلت يوما بالسكن.. والآن تبخل بالكفن...ماذا أصابك يا وطن“ .. ماذا أصابك يا وطن... أليس لنا حظ حتى في المقابر... ضقت يا وطني بالسكن .. وبخلت بالكفن.. لكن كيف ضقت يا وطني بالقبر؟ "ليس عندي قبر" حقيقة ذاقها آلاف العرب والمسلمين الأعوام الماضية وسيذوقها آلاف وربما ملايين في الأعوام القادمة .. ممن تجرعوا الموت المالح في طريق الهجرة إلى الشمال.. ضاق بهم فضاء الأرض العربية المدنسة بخطيئة إبليس ومظالم قابيل.. لكن وسعتم ظلمات البحر، وبطون الوحوش البحرية .. عركتهم حياة المقابر في اليابسة وهم أحياء.. فلما هموا بالرحيل عنها فاجأتهم رياح الموت في البحر... فآووا إليه في دعة بعد أن قضمتهم الوحوش البشرية وهم أحياء... تظلم الدنيا .. بيد أن موت الحياة يعودنا الحياة في ظل الموت.. ويمنحنا حياة أخرى تنطلق من براثن الخوف والألم... ليروي البؤساء - على حد تعبير جويدة – قصتهم "في زمن التخاذل والتنطع والهوان..وسحابة الموت الكئيب.. تلف أرجاء المكان .." ولكن علينا أن نذكر أن سحابة الموت الحقيقية تخيم فوق خيالات "الهيكل المزعوم" في أم المدائن.. ثم تحوم ناشرة ألوية الموت في عواصم القهر، تبني معابد المال في كل الحواضر.. تسمن سدنة الهيكل، وعبدة المادة في كل البقاع .. حيث تتساقط الآمال في وادي الخوف وعندما تستيقظ من غفوتها تسقط في وادي العبث والهروب.. ثم تضحي المساكن أمنية والقبور أغنية... فلا عجب إذا جاء يوم، وقامت تظاهرة عربية ترفع لافتة واحدة، وتطالب بمطلب واحد .."قبر لكل مواطن".. د. محمد فوزي عبد الحي كلية اللغات والترجمة . جامعة الأزهر