أليست مفارقة.. أحمد شفيق الذى كان متوقعًا أن يهرب من الميدان نجده يتمسك به، بل يقاتل حتى لا يغادره، بينما محمد البرادعى المفترض أنه رجل الميدان إذ به يهرب منه، ويفرط فيه؟ الميدان هو ساحة العمل السياسى الرحبة فى مصر كلها، ومجال اختباره هو انتخابات الرئاسة، وهى على الأبواب، والانتخابات الحالية ستكون الأهم فى تاريخ مصر، لأنها الأولى التى سيختار فيها المصريون من يحكمهم بنزاهة وشفافية، ومن سيدخل القصر سيكون رئيسًا شرعيًا لن يملك أحد أن يشكك فى شرعيته، أو يطلب منه أن يغادر قبل أن تنتهى مدة ولايته الدستورية. تختلف أو تتفق مع الفريق أحمد شفيق، لكنه يثبت أنه مقاتل، لا يهرب من أى ميدان، سواء كان فى الحرب، أم فى السياسة، فهو رغم ما يوجهه له البعض من اتهامات حول علاقته بالرئيس السابق، وأنه كان وزيرًا فى نظامه لمدة عشر سنوات، ثم رئيس وزراء مبارك خلال الثورة حيث وقعت معركة الجمل فى عهده، وأنه غادر منصبه مغضوبًا عليه بضغط من ميدان التحرير بعد الثورة، وأنه مرشح رئاسى ذو خلفية عسكرية، إلا أنه لا يعتبر هذه وغيرها أوزارًا يحملها على كاهله، بل يلقى بها وراء ظهره ويمشى فى طريقه، ليس استكباراً، أو تجاهلاً، أو هربًا، إنما لأنه لا يرى فى تلك الاتهامات نواقص تؤخذ عليه، أو تحط من قدره، أو اتهامات تجعله يتوارى، بل هى محطات فى مسيرة الحياة خدم خلالها البلد بأمانة وإخلاص، وهو ليس مسئولا عن تفسيرها سياسيًا، واستخدامها منصة ضده لقصفه ومنعه من مواصلة حلمه فى الخدمة من خلال أرفع منصب وهو الرئاسة، ولذلك يصر على الترشح، وخوض المواجهة والمنافسة بكل قوة، وبدون تزلف لأحد من السياسيين، أو الأحزاب، أو حتى الثوار، بل إنه يتفاخر بكونه عسكريًا، يملك سيرة ذاتية مميزة أهم بند فيها أنه دافع عن تراب البلد، كما يفتخر بكونه وزيرًا لعشر سنوات فى عهد مبارك حقق خلالها إنجازات عالمية فى قطاع الطيران وبنيته الأساسية. فى المقابل فإن الدكتور محمد البرادعى الدبلوماسى، والموظف الدولى الكبير، يثبت أنه ابن مخلص لمهنته التى لا تميل للمواجهة والقتال، إنما التخفى وراء الأوراق، والعمل فى الغرف المغلقة، والحديث باللغة الدبلوماسية الضبابية، وتنفيذ تعليمات الرؤساء، ولذلك كانت مفاجأته بالانسحاب من الترشح، رغم أن طريقه من الحرير بدون العوائق التى أمام شفيق، فهو دشن نفسه معارضًا لمبارك ونظامه، وداعية للتغيير، وجاء لمصر محاطًا بالجمهور الساخط، والحالم، بالآمال العريضة فى أن يكون رمز التغيير الذى يتوق إليه المصريون بعد يأسهم من الإصلاح على أيدى مبارك الأب أو الابن، لكنه فجأة يصدم مؤيديه بالانسحاب من الساحة بزعم أن هناك أوحالاً سياسية، لا يريد الخوض فيها حتى لا تتسخ أقدامه، وأن البيئة ما زالت غير مواتية، وإلى آخر مبررات الهروب الكبير للرجل الذى كان يجهز نفسه ليكون رئيسًا لمصر، فلما وجد أن المهمة صعبة ومعقدة، رغب أن يكون رئيسًا للوزراء، فقزم نفسه. كنت من الذين توسموا خيراً فى البرادعى فى بداية عودته للقاهرة باعتباره الشخص الذى طال انتظاره للالتفاف حوله لقيادة حركة جماهيرية تغييرية، لكنه كان يريد أن يكون زعيمًا وهو جالس فى قصره مكتفيًا بالنضال من خلال ال"فيس بوك"، والتغريد عبر "تويتر"، حتى انفض كبار مناصريه فى الجمعية الوطنية للتغيير من حوله، وأخفق مشروعه لجمع التوقيعات على مطالبه السبعة للتغيير، فهو ليس سعد زغلول آخر، وربما فاجأته حركة الشباب فى 25 يناير، ومن بعدها حشود الجماهير التى صنعت ثورة لم يكن له فيها دور القائد، ربما كان يريد للثورة أن تأتى إليه حيث يجلس، لتنصبه قائدًا لها، لذلك خسر، فأخذ يصعد فى مواقفه حتى اكتشف من نتائج الانتخابات البرلمانية أنه خارج حسابات الشارع، فانسحب حتى لا يكون إخفاقه فى انتخابات الرئاسة هزة دولية له. الجنرال شفيق، قصة على النقيض الآخر، فهو يقدم نفسه بأنه المقاتل، العملى، الجاد، النشط، المنضبط، المنجز، الإدارى، أو "الإدارجى"، إحدى عينيه على أمراض الداخل، والأخرى على العلاج، لكن بالمواصفات التى يستخدمها العالم المتحضر فى استئصالها من جذورها، يؤمن بطى المسافات، والتحليق فوق السحاب، وبنظرية حل المشاكل فورًا، وعدم ترحليها إلى الغد، أى اللاوقت، عندما يسأل عن مشكلة يقول إن حلها يجب أن يكون قبل الثانية القادمة، لا يشينه أن يكون عسكرياً، ويترشح للرئاسة، فالناس ستختار بين العسكريين، والمدنيين، ولا يشينه أن يكون المشير زميله، وصديقه، وكان قائده يومًا، فهذا مثار فخر له، حسب قوله. هو فى رأيى مثل السلفيين فى خصلة مهمة، وهى الصراحة، والبعد عن التقية السياسية، أى لا يبطن عكس ما يظهر. سيتعرض شفيق لحملات هجوم شرسة، ولا أخلاقية أحيانًا، وهو بأعصابه الفولاذية عليه أن يتحمل، ويصمد، ولا يتراجع، فمن مصلحة مصر أن يكثر عدد المرشحين حتى يتسع المجال للفرز واختيار الأحسن، والأصلح، والمؤكد أن الناس لن تختار إلا الأصلح لهم. ما زلت أكن احترامًا للبرادعى، فقد كان اختيارى المفضل للرئاسة، وقد يعدل عن قراره، لكنه خسر بين أنصاره، قبل أن يخسر شعبيًا، وما قلته عن شفيق ليس دعاية له، فهو مجرب، وقادر على الحديث عن نفسه، لكنى فقط أحلل، وأقرأ الشخصيات، والأفكار، خصوصًا إذا كان واحدًا من هؤلاء المرشحين سيكون رئيسًا وتنتظره أحمال وأثقال بحجم وطن مثل مصر، وقد سبق وانتقدت الجنرال حسام خير الله، وهو مرشح رئاسى آخر، ولا يعنى ذلك أننى ضده، ومن سأكتب عنهم من المرشحين الآخرين فيما بعد لا يجب تفسيره بأننى مع هذا، أو ضد ذاك، إنما أنا فقط أجتهد لأرسم صورة للمرشح، أو أحاول تقريبها من الواقع، من خلال رأى، ووجهة نظر، قد تكون صائبة، أو قد تحتاج للتصويب. [email protected]