زخم الثورة وروحها يكون له بطبيعة الحال بعض العوارض الجانبية السلبية، وأهمها سرعة الاندفاع فى الرأى وقصر النفس فى الحوار وضعف قدرات الصبر على التأمل فى الأفكار والرؤى الجديدة وانتشار روح الشك والاتهام ، وأتصور أن ما جرى لفكرة "التوافق" على رئاسة الجمهورية قد أصابها شىء من تلك العوارض خلال الأسابيع الماضية، إذ إنه بمجرد أن أطلق البعض عليها النار والاتهامات حتى اندفع الجميع فى الهجوم والنقد والتشكيك ووضع علامات الاستفهام التآمرية على الفكرة التى لا تحتمل بطبيعتها ذلك كله، ويمكنك أن تراجع كل ما كتب عن موضوع "التوافق لانتخاب رئيس الجمهورية فلن تجد أى وجه منطقى ومقنع للاعتراض، مجرد وساوس وشكوك وقلق من "التآمر" على اختيار الشعب. ما زالت قناعتى قائمة بأن "التوافق" على رئيس للجمهورية فى المرحلة المقبلة هو المخرج الأفضل لهذا الجدل والاضطراب وعدم وضوح الرؤية، وأيضًا المخرج لخوف الكل من الكل، والطمأنة النفسية لكل تيارات الوطن بأن حصاد الثورة يصل إلى جميع أبنائها، وأن جهة أو تيارًا أو حزبًا لن يصادر على الآخرين أشواقهم فى رئيس جديد يعبر عنهم ويحقق مطالبهم ويضمنون نزاهته الشخصية والسياسية. والذى يتأمل خريطة الترشيحات لرئاسة الجمهورية يلاحظ مدى التشتت والتجاذب بين عدة أقطاب بصورة حادة جدا، كما يلاحظ عدم وضوح الرؤية عند معظم التيارات فى الاختيار الذى يطمئنون له، وهذا الكلام على مسئوليتى يمكن طرحه فى حالة الإخوان المسلمين، فلا يوجد حتى الآن إجماع داخلى على مرشح، هم يعرفون ما يرفضونه، ولكنهم لا يعرفون حتى الآن من المرشح الأفضل أو النهائى بالنسبة لهم وهناك قلق واسع غير معلن داخل الجماعة حول هذه المسألة، والأمر نفسه يمكن قوله بالنسبة للتيار السلفى، فلا يوجد حتى الآن ثقة واطمئنان تجاه مرشح بعينه، باستثناء حماسة وعاطفة قطاع من الشباب للشيخ حازم أبو إسماعيل، إلا أن ذلك لم يخف وجود تيار قوى بين السلفيين يتحفظ على هذا الاختيار، والمؤكد على مسؤوليتى أيضًا أن التيار السلفى "الفاعل" لم يصل حتى الآن إلى رؤية فى الشخصية التى يمكن أن يلقون بثقلهم الانتخابى وراءها، والناصريون حتى الآن لم يحددوا موقفهم أو يعلنوا اختيارهم، وهناك انقسام واسع على حمدين صباحى، وكذلك التيار اليسارى الذى يفتقر إلى الشخصية ذات الحضور الجماهيرى، ورغم ما يتردد عن ترشيح أبو العز الحريرى إلا أنه ليس بالشخصية التى تحظى بتوافق يسارى وهناك انقسام واسع داخل اليسار حوله، وفى التيار الليبرالى هناك حيرة أوسع لأن تردد البرادعى وتراجعه المستمر ترك فراغا لدى القوى الليبرالية الجديدة، ولا يوجد بديل مطروح للاختيار، كما أن حزب الوفد برؤوسه المتقاربة والمتناطحة عاجز عن أن يقدم مرشحا، وهناك تيار قوى داخله يرمى بثقله الآن وراء عمرو موسى، والكتلة المصرية تفتقر تمامًا إلى الرؤية فى هذا الموضوع ولديها قناعة أن مرشحها لا بد أن يكون بتوافق مع قوى أخرى لكى يكون هناك فرص حقيقية للفوز أو الإعادة على الأقل. هذه المتاهة وغياب اليقين عند الجميع، حتى أولئك الذين يملكون قاعدة شعبية واسعة يجعلنا من جديد أمام فكرة "التوافق" حول رئيس مقترح لجمهورية الثورة، وأتصور أن الحوار الوطنى الجاد والمسؤول يمكن أن يفكك مخاوف وشكوك الفكرة، كما أنى ألمح فى الأفق خيال فكرة "فريق عمل" رئاسى، من خلال اختيار رئيس وعدة نواب للرئيس، وهو أشبه بفكرة "المجلس الرئاسي" التى طرحت سابقا، وكانت تحظى بدعم وشوق قطاعات تهاجم الآن فكرة "التوافق"!!، رغم أنها هذه المرة ستكون باختيار الشعب وإرادته وليس فقط اختيار نخبة واتفاقها. نحتاج كثيرًا فى تلك الأيام إلى العقل والتأنى وعمق النظرة إلى مستقبل بلادنا. [email protected]