طالما شعرتُ بالغيرة كلما قرأتُ عن الأم تريزا، وحين ماتت عام 1997، ضربنى الحزنُ أن قطعةً من الجمال غادرت كوكبنا الحزين. الراهبةُ التى احتضنت المجذومين والمشردين والمنكوبين والجوعى والعجزة واللقطاء.. كانت تقول إن الدواء قد يعالج المرض، ولكن مرضًا خطيرًا اسمه «نقصُ الحب»، ليس من علاج له سوى الحُنُوِّ والرعاية. كنتُ أغار وأقول متى يكون لدينا مثل تلك الأم؟ ومصرُ أولى بالجمال بين كل بلاد الله، نالت الأم تريزا نوبل للسلام عام 1979، ومصرُ نالتها فى السياسة مرّةً، وفى الآداب مرّةً، وفى العلم مرتين؛ فمتى تنالها فى الحب؟ لذلك رقص قلبى فرحًا مع كل كلمة قالتها المضيئةُ د. عبلة الكحلاوى فى برنامج «العاشرة مساءً»، وهى تتحدث عن جمعيتها الخيرية «الباقياتُ الصالحات»، التى تحتضن الأطفال، والمسنّين، والمرزوئين بالزهايمر، وتأوى مَن لا مأوى له، بين دفء تلك الجمعية التى تبرعت لها بالأرض وبالحب، وتبرعت للتشييد أمٌّ كريمةٌ من قطر اسمها «أمينة درويش». شأنى شأن كل مصرىّ شاهد الحلقة، شعرتُ بالزهو أن بمصرَ جمالاً لا ينضب، وبريقًا لا يخبو، ثم طار قلبى وفارقنى ليحطَّ على قلب تلك الأم المصرية، حينما ورد اسمُ المسؤول المالىّ عن الجمعية: «أديب مترى»! لستُ أعرفُ أديب مترى، لكن شعورًا بالغبطة ملأ روحى. السيدةُ الجميلة عبلة الكحلاوى، الداعيةُ الإسلاميةُ الأشهر، التى تنطقُ بالقرآن والحديث النبوىّ بين كل عبارة وأخرى، لم تهتف بشعارات ضخمة صاخبة حول الوحدة الوطنية (يا له من تعبير مُنفّر يشى بالانشقاق والفُرقة!)، ولم تتزعم حملات ومنابرَ تنادى بعدم ربط المواطَنة، و«المحبة»، بالعقيدة، ولم تترأس ندوات تطالبُ بإخماد نيْر الفتنة ونار الطائفية بين المصريين، لم تكتب مقالات، مثلنا، ليل نهار تناهض السلوكيات الوقحة التى يرتكبها المتطرفون فى مواطنيهم، بجهل وعماء وتخلّف أضحك علينا العالمين.. لم تفعل شيئًا من تلك الأمور «الكبرى»، التى يبدو أنها لا تُفضى إلى شىء! بدليل انحدارنا يومًا بعد يوم، رغم أصواتنا التى بُحَّت، وأقلامنا التى جفّت! ولكنها، بهدوء، وبدون كلمة واحدة، ملفوظة فى شعار، أو مكتوبة فى مقال، أعطتِ الدرسَ العملىَّ الرفيعَ ذكيًّا بليغًا بالغًا هدفَه، وتلقّفَ الفكرةَ الطرفُ الآخر، الذكىُّ أيضًا، السيد أديب مترى، فأعطى درسًا موازيًا لا يقلُّ نبالةً ورقيًّا. الداعيةُ الإسلاميةُ الكبيرةُ جاءت برجل يخالفها العقيدة لتسلّمه مفتاحَ بيت المال لجمعيتها التى ترجو بها وجه الله ورضاءه؛ غيرَ عابئةٍ بحرج محتمَل من بشر حرمهم اللهُ مكرمةَ الإدراك، فضيّق عليهم «جوهرة الترّقى»، العقل، مثلما ضيّق صدورَهم فليست تضم إلا قلوبًا فظّة جامدة. والمسيحىُّ الرَّحْبُ رحّبَ بالعمل فى جمعية مسلمة، غير عابئ بحرج محتمل قد يفتعله ضيقو البصر محدودو الإدراك بفكرة الخالق والخلق. هنا درسٌ مزدوج للتأمل.. درسٌ عملىٌّ رصينٌ لمَن يريد أن يسمو.. لمَن يودُّ أن يتذوق حلاوةَ النُّبل والترقّى، والترفّع عن دنايا لا يأتيها سوى همج ورعاع، حرىٌّ بالبشرية أن تتبرأ منهم، لكى تصفو. تحيةً من القلب لتلك الأم المصرية الجميلة. [email protected]