كتب بعض القراء تعليقات ثمينة على هذه المقالات، وأنا أقدرهم وأشكرهم عليها، وأود فحسب أن أوضح لهم أن المساحة هى التى فرضت نفسها دون إيراد بعض ما كانوا يرونه، كما أود أن أذكرهم بأننا نريد بدرجة أساسية إبراز إضافات الإسلام إلى عالم العمل بصرف النظر عما إذا كان واقعًا، لأن ما هو واقع يعود إلى عدد كبير من الأسباب، يمكن أن تعالج فى كتاب كبير، وليس فى مقال، أو حتى بضعة مقالات، بل إن أحكام الفقهاء فى الفترة المتخلفة من الفكر الإسلامى أسهمت فى ذلك مما سنشير إليه فيما سيلى. فقد حرم الإسلام كل صور الكسب والممارسات التى تقوم على دعارة أو خمر أو قمار أو استغلال أو غش أو غرر أو احتكار أو إكراه أو ربا.. وفى مقابل هذا أوجب الاتقان والإحسان والأمانة، وانسحبت هذه كلها ليس فحسب على الإنسان، ولكن على الجماد والحيوان، لأن أخلاقية العمل فى الإسلام «مبدئية» فهى تسرى على الجميع، وإذا كانت منظمة العمل الدولية قد حددت فى إحدى اتفاقياتها الحد الأقصى لما يمكن أن يكلف حمّال بحمله، فإن الإسلام قد حدد هذا بالنسبة للحيوان، فروى ابن عبدالحكم فى سيرة عمر بن عبدالعزيز رضى الله عنه: «أنه نهى عن إركاض الفرس إلا لحاجة وأنه كتب إلى صاحب السكك ألا يلجموا حيواناً بلجام ثقيل ولا ينخس بمقرعة فى أسفله»، وكتب إلى حبان بمصر «بلغنى أن بمصر إبل نقالات يحمل البعير منها ألف رطل، فإذا أتاك كتابى هذا فلا أعرف أنه يحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل».. وحتى فى الفترة المتأخرة من الفكر الإسلامى عندما أطبقت عليه الغشاوات والظلمات نجد التاج السبكى (المتوفى سنة 771ه)، يذكر بين واجبات البريدية الذين يحملون رسائل الملك وكتبه: «وحق على كل بريدى ألا يجهد فرسه، بل يسوقها بقدر طاقتها وقد كثر منهم سوق الخيول السوق المزعج، بحيث تهلك تحتهم أفما علموا أنها من خلق الله». وكان من واجبات المحتسب ملاحظة الرفق بالحيوان فكان عليه أن يأخذ أرباب البهائم بعلوفتها إذا قصروا وألا يستعملوها فيما لا تطيق، وعلى المحتسب أن يأمر جلابى الحطب والتبن وغيرهم إذا وقفوا فى العراص أن يضعوا الأحمال من على ظهور الدواب، لأنها إذا وقفت والأحمال عليها ضرتها، وكان فى ذلك تعذيب لها وقد نهى الرسول عن تعذيب الحيوان لغير مأكله، ويذكر الشيزرى فى الحسبة على الجزار ألا يجر الشاة برجلها، وألا يذبح بسكين كالة، لأن ذلك تعذيب للحيوان، ويشترط على من يتعاطى البيطرة أن يكون ذا علم بعلل الدواب وعلاجها وذا دين يصده عن التهجم عليها بفصد أو قطع أو كى، فيؤدى ذلك إلى هلاكها أو عطبها، لأن الدواب ليس لها نطق تعبر به عما تجد من المرض والألم. وهذه التوجيهات مبنية على أحاديث تكررت روايتها عن النبى صلى الله عليه وسلم، كما أن هناك أحاديث أخرى تمنع من كى ووشم الحيوان فى الوجه، واستمرار ركوب الدواب وهى واقفة، واتخاذها منابر، والنهى عن التحريش بين الطيور والحيوانات أو اتخاذها غرضا تصوب عليه النبال، وقد قضى النبى صلى الله عليه وسلم على عادة ربط الجمل بقبر صاحبه حتى يموت معه، ونهى عن قص معارف الخيل وأذنابها. بل إن أخلاقيات العمل تنسحب على الجماد أيضا، فنهى النبى صلى الله عليه وسلم عن قلع الشجر أو عضده، ونهى عن الإسراف فى استخدام المياه عند الوضوء «ولو كنت على نهر جار». فإذا كانت أخلاقية العمل فى الإسلام قد أحاطت هذه الإحاطة بالتعامل مع الحيوان والجماد فهى بالنسبة لمختلف مجالات النشاط العملى للإنسان أوسع وأكثر، وقد شملت مضمون العمل، بحيث استبعدت كل صور الممارسات اللاأخلاقية، كما شملت الأداء فأوجبت الإتقان والإحسان والأمانة والوفاء بالوعد والعقود «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه».. «إن الله كتب الإحسان فى كل شىء».. «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»، الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة، وأشد ذلك الودائع.. «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا».. والآيات القرآنية الواردة فى الوفاء بالكيل والميزان أكثر من أن تذكر. وقد تتضح أخلاقية العمل الإسلامى من أنه يعطى العامل الحق بل يوجب عليه الامتناع عن بعض صور الأداء التى تناقض التوجيهات الإسلامية، حتى وإن أمر بها رؤساؤه أو جر عليه مغنمًا، وقد ضرب الشيخ تاج الدين عبدالوهاب السبكى بعض أمثلة ذلك عند حديثه عن واجبات بعض الحرفيين.. فمن ذلك أن الساقى لا يحل له أن يحضر لمخدومه منكراً يشربه، وعليه إعمال الفكرة والحيلة فى سد هذا الباب وبالنسبة للفراشين الذين ينصبون خيام الأمراء «وحق عليهم ألا يحتجروا على الناس ويمنعوهم أرض الله الواسعة، فما أظلم فراش الأمير وغيره إذا جاء إلى ناحية من الفضاء فوجد فقيراً قد سبق إليها ونزل منها ليخيم للأمير مكانه وحكم الله أن السابق أولى والأمير والمأمور فى ذلك سواء»، وبالنسبة للمكارى «ومن حقه التحفظ فيمن يركبه الدواب، ولا يحل لمكار يؤمن بالله واليوم الآخر أن يكرى دابته من امرأة يعرف أنها تمضى إلى شىء من المعاصى فإنه إعانة على معصية الله»، أما السجان «وإذا علم السجان أن المحبوس حبس بظلم كان عليه تمكينه من الفرار قدر استطاعته وإلا يكون شريكا لمن حبسه فى الظلم»، ورأى التاج السبكى أن «المشاعلى» وهو الذى يكلف بتنفيذ حكم الإعدام شنقاً أو قتلاً «متى أمر ولى الأمر مشاعليًا بقتل إنسان بغير حق والمشاعلى يعلم أن المقتول مظلوم، فالمشاعلى قاتل له يجب عليه القصاص وإن كان ولى الأمر أكرهه أو جعل أمره إكراهًا فالقصاص حينئذ عليهما جميعًا عند الشافعى». وكانت الهيئات التى تُعنى بالعمل وقبل أن تظهر النقابات فى العصر الحديث، يطلق عليها فى المجتمع الإسلامى اسم «الأصناف» أو «الأخويات»، وكانت تنظم شؤون الحرفة، ولم يكن يسمح لأى «صبى» بأن يكون «صانعًا» أو لأى «صانع» أن يكون «أسطى» أو لأى «أسطى» أن يكون «معلمًا» إلا بعد أن يشهد له المعلمون الحاضرون بحسن الخلق.. وكرم المعاملة.. وإتقان العمل.. وأداء الفروض الدينية، ففى هذه العهود كان إتقان العمل والتمسك بالشعائر الدينية وجهين لعملة واحدة، وبعد إتمام اجتماع يطلق عليه «الشد والحزام». وتصور إحدى الوثائق الطريقة التى كانت تتم بها حفلة «الشد والحزام» التى يمكن عن طريقها للعامل أن يدخل الصنعة. ويكون جميع الحاضرين جالسين على ركبهم مطرقى الرؤوس، ثم يطلب النقيب من العامل قراءة الفاتحة مرة ثانية، ثم يذكر النبى صلى الله عليه وسلم ويتلو الفاتحة مرة ثالثة، وبعد أن يفرغ منها يسلم النقيب سبعة سلامات، سلام على الحاضرين، وسلام على الحرفة وشيوخها، وسلام على أهل الميمنة، وسلام على أهل الميسرة، وسلام على السادة، وسلام على الإصلاح، وسلام على الأحباب، ثم يلتفت إلى العامل، ويقول له أوصيك يا من تخاوى أو تعاهد بأداء الفروض ورعاية العهد ويشهد عليك الحفظة وسيكتب من يضيعه من المبعدين. يا بنى إن جميع الحرف أهلها أمناء على الأعراض والأرواح والأموال، فكن صادقاً أمينًا واعلم أن كارك مثل عرضك، حافظ عليه بكل ما تملك، وإذا تسلمت أموال الناس فلا تفرط فيها، وإياك أن تخون أهل الحرفة، والخائن مسؤول. ثم يلتفت إلى الحاضرين ويسألهم: ■ هل يستحق أن يكون صانعًا؟ ■ فيقولون: نعم. وحينئذ يأخذ عليه العهود.. إلخ، ويقوم بعملية «الشد والحزام». ومن الجمل ذات المغزى العميق التى وردت فى هذه الفقرة جملة «واعلم أن كارك مثل عرضك»، فالحرفة هى كالعرض يلحظ فيها من الأمانة والصيانة والحفظ والغيرة ما يلحظ للعرض. ■ ■ ■ جاء فى مجلة النبأ 29/5/2010م مانشيت عريض «كتب التفسير وعلماء الدين يكشفون غلطة د0 مشيرة خطاب فى حق الدين»، وذكرت المجلة أن د0 مشيرة خطاب استشهدت بصدد الحض على تحديد النسل بالآية «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا» وخطأتها المجلة وأخذت آراء «أهل الذكر» وهم بالطبع شيوخ الأزهر فنقلوا لنا أنه جاء فى تفسير الطبرى «اختلف أهل التأويل فى تأويل هذه الآية»، وجاء فى تفسير القرطبى «إن هذه الآية قد اختلف فى تأويلها» وتوصلوا فى النهاية أن المراد بها اليتامى واستشهد أحدهم بأن الآية التالية «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا».. إلخ. نقول إن الآية تعطى المعنى الذى أرادته د0 مشيرة، وأن الحجر على المعنى بأنه اليتامى هو من الاجتهادات التى «اختلفوا فيها» وهو يحد من المعنى العام الذى أراده القرآن والذى يشمل إنجاب عدد كبير من الذرية لا يمكن إعالتهم، وتقييد فهم الآية بأنهم اليتامى تطفل، وحيلولة دون الشمول الذى أراده القرآن عندما لم يذكر أنه يعنى اليتامى. [email protected] [email protected]