أكتب بعد أن انتهيت مباشرة من ترؤس لجنة مناقشة رسالة دكتوراه فى المعهد القومى الفرنسى للتكنولوجيا، بمقاطعة «لورين» الشهيرة بالصناعات الكيماوية وفازات وأثاث طراز «الجاليه» وفنون الكريستال. يقع المعهد فى بلدة «نان سى» بالتحديد، وهو أحد المعاهد التى أقامتها فرنسا مبكرا للتوسع فى العلوم والهندسة لمواكبة التطور الذى سيحدث (وقد حدث بالفعل). أكتب متأملا العالم الذى نعيش فيه، فها هو ذا أستاذ مصرى يحضر ليوم واحد إلى شرق فرنسا بعد أن أمضى أياما فى أمريكا بمناسبة عقد فعاليات حول ريادية الأعمال، لكى يرأس لجنة تتكون من ستة أساتذة منهم واحد من سويسرا، وثان من باريس، وثالث من «صوفيا انتيبوليس» القريبة من «كان»، واثنان من «نان سى»، وجميعنا نناقش رسالة عن «إدارة التكنولوجيا».. أى نناقش أهم قضية تكمن فيها مفاتيح تقدم العالم، ونفعل ذلك ونحن فى بلدة صغيرة، نان سى، كانت حتى وقت قريب معزولة عن العالم وليست معروفة كعواصمه ومدنه الكبرى. كان قد تم التخطيط للمناقشة باليوم والساعة كما تقول الأغنية المعروفة، بحيث يتوافق الموعد مع ظروف الجميع، ورغم ذلك، حدث فى آخر لحظة، أن استجدت ظروف دفعت السويسرى إلى الاعتذار عن عدم القدوم، فتم بسرعة عمل ترتيبات للاتصال الإلكترونى الفورى.. الصوتى والمرئى به، وهو فى مركزه، ليكون مشاركا فى المناقشة وكأنه معنا وجها لوجه، فياله من عالم يقدم الدليل كل يوم على أن الحدود بين البشر إلى زوال بفضل وسائل المواصلات السريعة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات . كان موضوع الرسالة جديدا ويهمنا للغاية فى مصر والعالم العربى، لأن ما يعكسه من توجه سيكون سائدا فى المدى الزمنى المنظور، ولذلك أرجو أن نستعد له من الآن حتى لا نقول ساعة مجيئه: ياه لقد فوجئنا به!، فقد دارت الرسالة حول كيفية دخول الشركات فى تحالفات واندماجات وشراكات استراتيجية لتنمية التكنولوجيا، لتستفيد من خبرات بعضها البعض، حتى ولو كانت متنافسة، وكيف يمكنها تحقيق تعلم متبادل ونقل المعرفة بينها بلا عوائق أو قيود ودون تعارض مع مفاهيم حماية الملكية الفكرية، وأوضحت الرسالة أن التعقيد المتزايد فى التكنولوجيا جعل حتى الأغنياء بحاجة إلى تحالفات لإنجاز مشاريع جديدة أو تطوير ما هو قائم وأشارت إلى أن الشراكة المقترحة تهدف إلى إطلاق طاقة الإبداع والابتكار وسط الأطراف المشتركة كلها، وبما يفيد الجميع فى النهاية، ويحقق لهم السبق والتنافسية، واللافت أن الدراسة تجىء فى ظل مبادرات أطلقها الاتحاد الأوروبى منذ فترة، ويتم بمقتضاها تقديم تمويل كبير لتشجيع خلق بيئة مفتوحة للإبداع وتعاون عابر للحدود (أوبن انوفيشن سيستم) وذلك لجعل بلدان الاتحاد المختلفة تشارك فى مضاعفة الابتكارات حتى تستطيع مجاراة المنافسة الملتهبة على المستوى العالمى، فانظر ماذا تفعل أوروبا المتقدمة لخوفها من أن تتأخر عن المنافسة وتساءل معى: أين المبادرات العربية المثيلة لنتهيأ نحن أيضا للمنافسة الشرسة؟. ومتى نقوم بمناقشة رسائل الدكتوراه فى مدن بعيدة عن عواصم المحافظات يكون بها جامعات أو معاهد على مستوى رفيع، وتستطيع أن تستقطب علماء من العالم للمناقشة أو لإلقاء محاضرات وتقدم فى الوقت نفسه متعة فنية وثقافية للزائرين وللمقيمين كما رأينا فى المدينة الفرنسية الصغيرة؟. فى العودة من «نان سى» إلى باريس تمهيدا للرجوع للقاهرة عدت للتأمل ثانية وأنا أستقل القطار السريع الفاخرTGV، فالقطار نظيف للغاية، ومواعيده بالثانية، ويقطع المسافة بسرعة مذهلة، وتتنافس فرنسا بشدة مع الصين على السبق فى هذا المجال وابتكرت الأخيرة طريقة لعدم إضاعة الوقت فى الوقوف بالمحطات لالتقاط الركاب إذ يستقلون عربة مسبقا ثم يلتقطها القطار فى طريقه وقلت فى عقلى: هل يعاود الذين لم يقدروا بما يكفى مبادرة جامعة النيل بعمل ماجستير فى نظم النقل الذكية النظر فى مواقفهم؟ إن المستقبل لمثل هذا النوع من القطارات وما يشبهه من وسائل مواصلات فائقة السرعة فأين الجيل الذى يمكنه أن ينقل ويدير ويصون بل يطور أو على الأقل يتعاقد «صح» على مثل تلك النظم الناقلة؟ ألا يلزم لتخريجه برامج متعددة للنقل الذكى فى جامعاتنا الكبرى لنواجه مشاكلنا المعقدة فى النقل والمرور؟. قلت أيضا: هل من المقبول أن تكون مصر ثانى بلد فى العالم فى إدخال السكك الحديدية وأن يكون هذا هو حال شبكتها؟ ومتى نعود من أسوان إلى القاهرة أو من الأقصر أو الغردقة أو الإسكندرية أو بورسعيد فى قطار كذاك؟. إننى آمل أن نستفيد من المبادرات التى خرجت عن مؤتمر أوباما لدعم العلاقات مع العالمين العربى والإسلامى من خلال التعاون فى مجال التكنولوجيا وريادية الأعمال ونشر التعليم الجيد والثقافة العلمية، وفى هذا أشير إلى أنه لا يمكن أن نتحدث عن دور إقليمى لمصر دون أن نقود فى مجال الابتكار والإبداع وريادة الأعمال، وفى تسخير جانب من عوائد ذلك فى التنمية الاجتماعية بمعناها الشامل، وعلينا كذلك أن نستفيد من زخم المبادرات التكنولوجية والاجتماعية لرواد الأعمال فى بلدنا، والتى رأينا نماذج لها فى مؤتمر أمريكا، وأن نقدم خبرتنا للآخرين، ونستفيد أيضا من الغير، فما أكثر المبادرات المهمة كذلك التى قدمها مشاركون من بلاد مثل باكستان ولبنان وفلسطين، إضافة إلى أمريكا بالطبع. رغم كل شىء فأنا أعود مفعما بالأمل فى أن شبابنا سيشق طريقه إلى المستقبل ولن يجلس لينتظره.. فقط نتمنى أن نطلق له العنان. رئيس جامعة النيل