يتدثر برداء من الصوف فى يوم صيفى حار، ويرمق المارة بنظرات تشعر بأنها استجداء أو دعوة مكتومة للمساندة، يثرثر إلى جواره زملاؤه المعتصمون ويحملون كسرات من الخبز مع قليل من «جبن قديم»، وأمامهم رجال أمن يتحدثون، ويضحكون بعد أن اعتادوا مشهد الراقدين على رصيف مجلس الشعب، وصارت هناك علاقة حميمية، وصلت إلى تقاسم الخبز وتبادل النكات. عندما تمر بالجمع الذى يفترش الأرض فى شارع قصر العينى تدفعك الذات إلى التفكير مليا فى السؤال: «هل نحن مواطنون؟» بالنظر إلى حال المعتصمين وحالك، فإذا كانوا مقيدين بأعباء العوز والحاجة، فأنت محاط بالقيود مثلهم، قد تكون قيودهم بسيطة من وجهة نظرهم، لكن قيودك مختلفة فهى أشبه بسجن كبير يمتد بين السماء والأرض، فقد تتنفس على الأوراق لكنك مهموم بأن تتحول الكلمات إلى جسر لانتزاع الحرية، والتخلص من مشاعر القهر والعبودية. «الأنا» السوية تحركك إلى الاعتراض والاحتجاج على عالم تغيب عنه أبسط مقومات العدالة والمواطنة، ولا أعنى هنا المواطنة حسب التفسير الطائفى، لكن أعنى المواطنة كمطلب عام، أى شعور وواقع وحياة، فأغلبنا يسأل نفسه: «هل أنا مواطن أم أحمد عز؟» كطقس يومى، يحاول به التنفيس عن غضب كامن من جراء ممارسات فرعونية من جوقة الحزب الحاكم. «المساواة».. كلمة نكتبها لكن لا نشعر بها، ولو سألت: «نفسك هل نحن متساوون فى هذا الوطن؟» ستجيب بالنفى بلا تردد أو تفكير، فالمساواة تتحقق بالمواطنة التى ترمز إلى معانى الانتماء السياسى والحقوقى إلى الوطن، وإذا لم تتوفر المساواة فمفهوم المواطنة مجرد شعار تلوكه الألسنة دون انعكاس لمراميه فى الواقع. ففى كتابه «دور مجلس الدولة فى حماية الحقوق والحريات» يقول الفقيه القانونى القدير الدكتور ماهر أبوالعينين: «المواطنة إحساس بالانتماء وشعور بالولاء للدولة والوطن، والمواطنة ليست مجرد اكتساب لجنسية فى وطن، إنها كيان من المشاعر والحقوق والواجبات والروابط الأخلاقية والإنسانية والقانونية بين الإنسان وتراب الوطن، وبين الوطن بكيانه السياسى ومختلف مواطنيه«. فالمواطنة الكلام لأبوالعينين- كما يعلنها «جان جاك روسو« لم تعد امتيازاً تحظى به النخبة الاجتماعية والسياسية، بل حقاً يحظى به كل الأفراد فى المجتمع ويمكّنهم من ممارسة أدوارهم الاجتماعية والسياسية، لاسيما هذه التى تتعلق بالشؤون العامة للحياة فى المجتمع. وإذا كان ذلك كذلك، فنحن بصدد أزمة مواطنة، فالامتيازات يحصدها البعض فى حين تنال الأغلبية الفتات، فأغلبنا ينتمى لهذه الأرض لكن لا يحصد خيرها، وفى الساحل الشمالى والطرق الصحراوية عبرة ودليل على غياب المواطنة. وفيما يتعلق بالبعد القانونى للمواطنة فإنها تعنى مجموعة الحقوق التى يتمتع بها المواطن حصراً كحقه فى ممارسة الانتخاب والترشيح، أو يتمتع بها دون قيود كحقه فى الملكية أو فى الوظيفة العامة، فغير المواطنين لا يشاركون سياسياً كقاعدة عامة. كما أن غير المواطنين قد يتولى القانون تحديد نسب مساهماتهم فى المشروعات أو الشركات الوطنية وقد يحظر عليهم تملك العقارات، هذا إلى أن غير المواطنين لا يشغلون الوظائف السيادية. أما اجتماعياً فالمواطنة تعنى «الانتماء السياسى للكيان المسمى بالدولة الذى يمنع أى شكل من أشكال التمييز بين المواطنين«. وفى ظل هذه المفاهيم فإننا لا ننتمى، فالمنتمى صاحب حقوق ولا يحمل على كاهله الواجبات فحسب، ومن ثم واجب علينا أن ننكفئ على الذات لنجلدها لأنها مقصرة، فلم نحاسب أو نناقش أو نطالب بالخروج من دائرة «غير المواطنين»، التى عشنا فيها طويلا، تاركين الساحة للهوام من البشر ليتمتعوا بكل المزايا بنفوسهم الجائعة الطامعة الجشعة، وخنعنا وخضعنا وشغلتنا توافه الأمور، وغابت عنا مقومات الحياة الشريفة التى تبدأ بالمواطنة، الحياة تعاش بشرف عندما تسعى لانتزاع حقك فى المساواة، أن تختار ما تريد، ولا تنتظر ما يراد بك. »الحرية إرادة واستطاعة وعندما أقدر على ما أريد فتلك حريتى» قالها «فولتير» ونرددها لعلها توقظ النائمين من «غير المواطنين»، حتى نصبح مواطنين، لا أسرى لنخبة حاكمة، تنتصر فقط لمصالحها. [email protected]