آليت على نفسى ألا أريق مداد قلمى فى معارك صغيرة ضد «خدم» السلطة ما دمت قادرا على أن أشهره فى وجه أسيادهم من الأباطرة. وأكظم غيظى، وأمسك زمام أمرى، بقدر ما وسعنى، كلما حاول واحد من كتاب «العسس» و«الاسترزاق» و«النميمة» أن يستدرجنى إلى منزلق جانبى، فينال شرفا لا يستحقه، ويحظى بالتفات لا يجب أن يذهب إليه، وهو من يسترخص قيمة «الكلمة» وقامتها، ويتاجر بالحروف والمعانى، ولا ينتمى إلى شىء سوى أنانيته المفرطة، ومصلحته العارضة، ويضع رأسه على الوسادة كل ليلة، وهو يعرف تماما أن ما يكتبه باطل، وما يقوله زور وبهتان. إن أحدهم يرغى ويزبد منذ أسابيع، ويطلق الأكاذيب، ويرد على الصواب بالتدليس والنفاق، ويبحث عن توافه الأمور وصغائرها ليجرح اليقين، ويجهد نفسه فى وضع غربال ممزق أو سروال مهترئ ليحجب به شمس الحقيقة، التى سطعت فى سطور قاطعة كالسيف الباتر، كاشفة كالنور الغامر، ففضحت العصبة المستهترة التى يخدمها صاحبنا بقلم مرتعش، وعجز ظاهر عن صناعة جملة متماسكة، أو عبارة متناسقة، أو سطر ليس به عوار. وأريد أن أطمئن هذا المسكين، الذى سبق أن تاجر بقلمه فسقط فى قضية رشوة يعرفها القاصى والدانى، أننى لن أنجر إلى المستنقع الذى يجذبنى إليه، أو أدخل الجُبَّ المظلم الذى يريد أن يدخلنى فيه، فأقع مثله فى خطيئة الردح والقدح، التى يجيدها، أو النفاق الرخيص الذى يألفه، أو الجور على حق القراء الأعزاء فى مطالعة كتابة تعبر عن أشواقهم إلى الحرية والعدالة والكفاية، والواجب الذى للناس بأعناقنا فى معرفة ما يدور حولهم، وما يتعلق بهم، وما يشغلهم، ويمس حاضرهم ومستقبلهم. إن صاحبنا لم ولن يفهم أن هناك من لا يسخّر قلمه لخدمة سلطان أو جاه أو مال أو منفعة ذاتية أو يسوّد الصفحات من أجل إرضاء رجال العسس وزوار الفجر، ولن يكون بمكنته أن يعى وجود من لا يقايض على حريته وشرفه، ولن يدرك أن هناك من ينحاز إلى الناس والحقيقة، ولا يريد من أحد جزاء ولا شكورا، وأن مبدأه فى الكتابة لا يخرج عن قول الرسول الكريم: «من كتم علما يُنتفع به أُلجم بلجام من نار»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «مثل الذى يعلم العلم ولا يحدّث به كمثل رجل رزقه الله مالاً فلم ينفق منه»، ولا يخرج مبدؤه كذلك عن نص المادة (207) من الدستور التى تقول: «تمارس الصحافة رسالتها بحرية وفى استقلال فى خدمة المجتمع بمختلف وسائل التعبير، تعبيرا عن اتجاهات الرأى العام وإسهاما فى تكوينه وتوجيهه، فى إطار المقومات الأساسية للمجتمع والحفاظ على الحريات والحقوق والواجبات العامة، واحترام حرمة الحياة الخاصة للمواطنين ...». وأيضا قول الشاعر: «وما من كاتب إلا ويبلى ويبقى الدهر ما كتبت يداه فلا تكتب بكفك غير شىء يسرك فى القيامة أن تراه» إن صاحبنا لا يضع هذا أمام عينيه حين يجلس إلى مكتبه، ويسكب المتناثر فى رأسه على ورق أكثر بياضا من عقله، بل تحل أمامه بين السطور صورة «سيده الصغير»، الذى ليس سوى خادم مطيع للسلطان، فيتحرى الدقة فى ترجمة غضبه الماكر إلى شرر متطاير، وترجمة فرحه الساذج إلى رغاء أجوف، فينال تصفيقاً عابراً، أو رضاء لن يدوم، وينتظر ملهوفا، كعبد فى سوق النخاسة، ما سيدفع فيه. لقد اعتقد صاحبنا أن زلات سيده، التى كشفناها وفضحناها، ستكون فرصة سانحة له ليثبت له ولاء وانتماء وغيرة مصطنعة، وأنها ستعطيه فسحة من وقت ليستر فشله فى أداء المهمة الأساسية التى استقدمه «السيد الصغير» من أجلها، وذهب به زهو مريض وخيلاء متهالك إلى توهم أن بوسعه أن يرقص على آلام غيره، ويبنى على أنقاض من سواه، فراح يشحذ همته الفاترة، ويستنهض قلمه الناضب، ليرص سطورا ركيكة، ثم يقف بعد أن يفرغ منها، منتفخ الأوداج والبطن، وهو يظن أن الدنيا ستنشغل بما خط بنانه المرتجف، وأن شعرة واحدة فى رأس خصومه ستهتز، وأن أفكاك أصدقائه فى «لاظوغلى» ستنفرج عن أسنانهم فرحا ومرحا، وأن الرجال مهيضى الأجنحة الذين ينتظرونه خارج مكتبه سيصفقون له. فيا «رئيس التحرير» وصديق المباحث، لتكتب ما تريد، وتملأ جريدتك بردود فارغة لا أصل لها ولا قرار، أو لتقص مقالك وتلصقه على قارعة الطريق، أو لتخلع ملابسك وتقف تهذى ب«الحكاية المفضوحة» فى الميادين والشوارع والأزقة والحوارى، وحتى لو جئت متضرعا باكيا طالبا ردا ولو بحرف واحد، فلن يعيرك صاحب أى قلم شريف اهتماما، ولن يهتم بأن يذكر اسمك، أو يشغل الناس بما تكتب وتقول، فاهنأ بالظلام الذى تعيش فيه، واجمع قراءك القليلين، واطلب منهم أن يوقعوا على بيان للتضامن معك فى تسولك الرد والإجابة والنزال. ولتعلم أيها المسكين أن من تراه خصما لا يفكر فيك أصلا، لأن من العبث أن يتخذ منك قضية أو حتى أمرا يسيرا، وهو من يمتثل دوما لقول الله تعالى: «وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما»، وأعلم يا هذا أن طريقك أنت و«أسيادك الصغار» و«أسيادهم الكبار» مسدود مع من تقصده، وهو من يردد ليل نهار: سجنى خلوة ونفيى سياحة وتعذيبى جهاد وقتلى شهادة.