إذا كانت القمة العربية التى انعقدت فى ليبيا قد وضعت فى مقدمة اهتماماتها خطة تحرك عربية لإنقاذ القدس عبر تشكيل لجنة قانونية فى إطار الجامعة العربية، فإن نتنياهو قد حسم الأمر من جانبه، حينما اعتبر القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، ولم يخطئ فى وصف القدس العربية الفلسطينيةالمحتلة على أنها مثل تل أبيب، فكلتاهما من أرض فلسطين، وانتزعتا من شعب فلسطين، وتعرضتا للاحتلال والتهويد، تل أبيب عام 1948 والقدس عام 1967، وشهادات الملكية الحقيقية غير المزيفة المملوكة لعائلاتها بأصولها مازالت موجودة فى الأرشيف العثمانى، الذى يؤكد ملكية عقارات المدينة للعائلات العربية. لكن يبدو أن هذه الدلائل لا تعرف طريقها لحكام إسرائيل، ولا تعترف بها أصلاً فبعد أيام عدة من توتر العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية على خلفية إعلان حكومة نتنياهو بناء الوحدات السكنية الجديدة، وعرقلة جهود استئناف مفاوضات السلام خلال زيارة نائب الرئيس الأمريكى جو بايدن لإسرائيل سلطت الأضواء من جديد على علاقات البلدين خلال مؤتمر لجنة الشؤون العامة الأمريكية، وبينما التزمت واشنطن بموقفها من ضرورة وقف الاستيطان، وعدم إقدام إسرائيل على بناء 1600 وحدة سكنية فى القدسالشرقية فإن نتنياهو رفض المطالب الدولية بوقف البناء، وجدد إصراره على الاستيطان، واللافت أن المسؤولين الأمريكيين امتنعوا عن انتقاد موقف نتنياهو مجدداً، وحرصوا على عدم إبراز الخلاف بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل مجدداً. فبعد عشرة أيام من النزاع العلنى حول البناء فى القدسالشرقية أعلنت كل من الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأمريكية النصر، وبدأتا المساعى نحو حل الخلاف، فبينما يعتقد الأمريكيون أنهم حصلوا على تنازلات مهمة من رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، يرى الإسرائيليون أنهم لم يقدموا سوى القليل. ويرى المحللون فى إسرائيل أن نتنياهو بإدارته السياسية الفاشلة تسبب فى تغيير الموقف الأمريكى من موضوع القدس، فطيلة 42 عاماً، أى منذ احتلال القدسالشرقية وغيرها من المناطق العربية، كانت الحكومات الإسرائيلية تبنى فى المدينة لليهود حتى أصبح فيها نحو ربع مليون يهودى، وكانت الإدارات الأمريكية، الجمهورية والديمقراطية على السواء، تنتقد فى العلن وتسكت، أما اليوم وبعد استفزاز حكومة نتنياهو لنائب الرئيس الأمريكى جو بايدن، اضطرت الحكومة الإسرائيلية إلى التعهد خطياً بالامتناع عن البناء إلا بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية، وهذا أمر غير مسبوق، وينطوى على وضع اللبنات الأولى لمشروع تحويل القدسالشرقية إلى عاصمة للدولة الفلسطينية، ومع أن الأمر يتناقض كل التناقض مع سياسة اليمين، فإنه وافق عليه راضخاً. وقد بدا واضحاً أن هناك هوة سحيقة ما بين سياسة نتنياهو وسياسة البيت الأبيض فى عدة قضايا، فى مقدمتها قضية السلام فى الشرق الأوسط، فالإدارة الأمريكية ليست بلهاء، إنما تعرف أنها إذا مارست الضغوط على نتنياهو فإنه قابل للرضوخ، والتجربة فى الأزمة الأخيرة كانت خير برهان، لذلك فإنها لن تكون الأولى والأخيرة.