من الممكن أن نفهم لماذا يعجز العرب عن رد طغيان إسرائيل لأنها أكثر عتادا ومعرفة ووضوح رؤية.. لكن ما يصعب فهمه هو كيف أننا لم نتعلم من إسرائيل يوماً ولو درساً واحداً! لم يعرف العرب منذ ظهور إسرائيل بقرار أممى فى العام 1948 سوى الاعتداءات والمذابح والمظالم واغتصاب الحقوق. اغتصبت إسرائيل أراضينا واخترقت جلودنا وكادت تغسل أدمغتنا.. لم يهبط ليل على بلاد العرب طوال هذه السنين إلا وكان حاملا معه مشاعر الانكسار والإخفاق والإحباط والمهانة. وما يحدث اليوم من إنشاءات وأعمال إسرائيلية بهدف تهويد القدس وتقويض أساسات المسجد الأقصى والتوسع الفاجر المتغطرس فى حركة الاستيطان غير المشروع فى الأراضى الفلسطينيةالمحتلة ليس إلا مشاهد جديدة للمأساة ذاتها، لكن فكرة المأساة واحدة: قوة ظالمة باطشة تعرف جيداً ماذا تريد.. وضحية مستكينة تتخبط مشوشة الأفكار خائرة الإرادة متبلدة المشاعر فلم تعد تعرف حتى ماذا تريد؟ ولعلّ أخطر ما فى رد الفعل العربى اليوم فى مواجهة الأعمال الاستفزازية الإسرائيلية هو حالة تبلد المشاعر.. ليس سراً أنه فى العديد من الاستفزازات الإسرائيلية السابقة كان تخوف أمريكا وأوروبا من رد فعل الجماهير العربية ومخاطر ذلك على استقرار الأنظمة العربية، لكن كان رد إسرائيل على المخاوف الغربية دائما واحدا وهى لا تقلقوا.. نحن أدرى بهم (أى بالعرب).. هى ردود فعل عاطفية مؤقتة ثم تعود الأمور لحالها.. وكانت إسرائيل تصدق فى تحليلها كل مرة!! وها هى إسرائيل تعظ وتقدم للعرب المرة تلو المرة دروسا جديدة، لكن لا نحن استطعنا مواجهة عدوانها المستمر، ولا حاولنا أن نستخلص العظات والعبر من دروسها المتتالية. ولربما يكون مفيدا اليوم بدلا من شق الجيوب ولطم الخدود على ممارسات إسرائيل أن نتوقف عند هذه الدروس بقليل من التأمل. (1) الدرس الإسرائيلى الأول هو نجاح إسرائيل فى توظيف تنوعها السياسى والعقائدى لخدمة أهداف الدولة العبرية وطموحاتها الاستيطانية التى لا تتوقف، وأجادت إسرائيل فى ذكاء ودهاء توظيف تناقضاتها المجتمعية لتحوّلها من عنصر تفتيت وانشقاق إلى عامل وحدة والتفاف. ونحن نخطئ حين نمنى أنفسنا بالحديث عن إمكانية انهيار داخلى للمجتمع الإسرائيلى بفعل ما يعانيه من اختلاف وتناقض سواء بين اليهود السفارديم واليهود الأشكيناز أو بسبب الصراع بين العلمانيين الإسرائيليين والمتدينين اليهود معتقدين أن هذا الوضع يمكن أن يشكل عامل صراع يضعف من بنية المجتمع الإسرائيلى. منذ عشرات السنين نتحدث عن هذا الصراع الداخلى الإسرائيلى دون أن يتحقق منه شيء على أرض الواقع من تنافس سياسى ومناورات حزبية ومؤامرات سياسيين. فما يحدث فى المجتمع الإسرائيلى هو نفس ما يحدث فى أى مجتمع ديمقراطى آخر يعتمد قواعد الممارسة الديمقراطية ويحتكم إلى آلياتها. ومن المؤكد أن إسرائيل تستفيد من هذا المناخ الديمقراطى مرتين. مرة أولى حين تظهر أمام الدول الغربية بمظهر الدولة التى تشاركهم نفس القيم الحضارية وتنتمى إلى ما يحلو للغرب أن يطلق عليه «دول العالم الحر». وهى عبارة يرددها الساسة الإسرائيليون والغربيون كثيرا فى المناسبات الإعلامية فى وصلات المدح والغزل المتبادل بين إسرائيل والغرب. وتستفيد إسرائيل مرة ثانية من ديمقراطيتها الداخلية حين تتمترس وراءها لإخفاء نزعتها الاستيطانية فيما يشبه لعبة توزيع الأدوار بين الأحزاب والقوى الإسرائيلية. ولعلّ ما يؤكد تماما هذا المعنى هو حديث الرئيس الامريكى باراك أوباما أخيراً عن أنه لا يريد أن يمارس الكثير من الضغط على إسرائيل فى موضوع إنشاء المستوطنات الجديدة حتى لا يتسبب فى إحداث أزمة سياسية داخلية لإسرائيل. فإسرائيل فى توزيعها للأدوار على الأحزاب والقوى الداخلية لخدمة مصالحها العليا تبدو كأنها تضع أمريكا والغرب كله فى مأزق الاختيار بين السكوت عن أطماعها التوسعية أو تحميله مسؤولية أزمتها الداخلية فيما يشبه الهرب إلى الأمام، وهى سياسة معروفة اعتادت إسرائيل كثيراً على ممارستها. ولعلّ أكثر المظاهر الجليّة لتوظيف إسرائيل اختلافها وتناقضها العقائدى والسياسى هو موقفها من أحزاب وتيارات اليمين الدينى المتطرف. فقد نجح النظام السياسى الإسرائيلى فى إدماج هذه الأحزاب والتيارات داخل البنية السياسية للدولة مع أن بعض هذه الأحزاب والتيارات المتطرفة يصل إلى حد تكفير الدولة والأحزاب العلمانية مثلما نرى أحيانا فى بعض المجتمعات العربية. لم ترفض إسرائيل هذه الأحزاب والتيارات على الرغم من خطورتها بل احتكمت إلى الآليات الديمقراطية التى أوصلت حزب شاس اليمينى المتطرف إلى مقاعد الكنيست والحقائب الوزارية فى أكثر من حكومة إسرائيلية متعاقبة. إن هذا الدرس الإسرائيلى فى توظيف الاختلاف وإدارة التناقض بين القوى والتيارات السياسية والعقائدية داخل المجتمع العبرى لهو درس بليغ ما زال بعيدا للأسف عن وعى وإدراك العقل السياسى العربى الذى أخفق ليس فقط فى إدارة التناقض أو توظيف التنوع فى المجتمعات العربية، بل كان إخفاقه مدوّياً فى مجرد تحقيق الحد الأدنى من التآلف والتعايش بين أحزاب وقوى ذات قواسم مشتركة إلى حد بعيد. والمحزن أن الإخوة الفلسطينيين لم يستفيدوا من النموذج الإسرائيلى وهم الأقرب إليه والذين اكتووا بناره وشروره أكثر من غيرهم، وانطلقوا يمارسون التشرذم والاقتتال فيما بينهم مع أنهم الأكثر احتياجا إلى توظيف اختلافهم وإدارة تناقضاتهم من إسرائيل نفسها. (2) الدرس الإسرائيلى الثانى الذى لم يستفد منه العرب حتى اليوم هو نجاح إسرائيل فى تقديم نفسها إلى العالم عموما وإلى الغرب على وجه الخصوص كنموذج لدولة عصرية حديثة تتبنى قيم الحداثة الغربية جنبا إلى جنب مع احتفاظها بخصوصيتها كدولة يهودية أيقظت من جوف التاريخ مشروعاً توراتياً ونجحت فى تحقيق التصالح بين روحها العبرية ومظهرها المدنى الحداثى. ندرك أنه من الصعب على المجتمعات العربية أن تحاكى إسرائيل فى نجاحها فى تسويق نفسها إلى الغرب وانتزاع إعجابه لأن فاقد الشىء لا يعطيه. فالمجتمع العربى ما زال، من ناحية أولى، بعيداً عن مقومات الحداثة، كما أن خصوصيته الدينية، من ناحية أخرى، تبدو فى عيون الغرب مثيرة للمخاوف والشكوك بقدر ما هى فى المجتمع العربى نفسه مصدر تناقض ومظهر قلاقل. فى إسرائيل تم احتواء الخصوصية الدينية وإعادة إنتاجها عصرياً فى صورة تراث يعاد إحياؤه ولغة عبرية يتم دعمها والاعتزاز بها واستخدامها فى التعليم والآداب والفنون والحياة. فى إيجاز يمكن القول إن إسرائيل تبدو اليوم فى حالة زهو وافتخار بالهويّة اليهودية بينما تعانى المجتمعات العربية فى موقفها من هويتها الإسلامية من حالة انكسار وفقدان للثقة. من المؤلم قول هذا لكنها الحقيقة. ربما يرى البعض أن إسرائيل كدولة أو ككيان ليست هى بالضبط صانعة الحداثة بقدر ما هم يهود العالم الذين نقلوا إليها فى عقود قليلة معدودة المعرفة والعلم والمال والتكنولوجيا. وهو أمر صحيح إلى حد بعيد لكنه لا ينفى أن إسرائيل قد نجحت فى تقديم نفسها للعالم كدولة عصرية حديثة بقدر ما أخفق العرب. ولهذا يكنّ الغرب لإسرائيل شعوراً عميقاً بالإعجاب يعميه كثيراً عن رؤية عوراتها العنصرية والعدوانية. فى الوقت ذاته لا يتورع الغربيون فى الغرف المغلقة عن السخرية والتهكم وربما الاحتقار حين يتعلق الأمر بتقييم العرب. هذه حقيقة تنضح بها الكلمات التى صرّح بها نائب الرئيس الأمريكى جون بايدون فى زيارته لإسرائيل منذ أيام. ألم يكل بايدون المديح لإسرائيل على ما حققته من إعجاز فى صحراء العرب؟! ربما نتفق أو نختلف حول تقييمنا لما قاله جون بايدون، لكن المؤكد أن كلماته تكشف عن حقيقة أن الغرب لا يرى فى إسرائيل سوى حداثتها وديمقراطيتها متجاهلاً وحشيتها وعدوانيتها، بينما لا يرى فى بلاد العرب سوى الاستبداد والتخلف متجاهلا حقوقهم ومطالبهم المشروعة. هذه رؤية غربية مركبة ومعقدة قد تنطوى على قدر من الحقيقة لكن قدر التحامل فيها أكبر. كان للإعلام على أية حال دور لا يستهان به فى تكريس هذه الرؤية والترويج لها. والإعلام سلاح آخر من أسلحة القوة الإسرائيلية وأداة من أدوات سياستها التى لا تقل أثرا عن الطائرة أو الدبابة. لكن هل استفدنا نحن من هذا الدرس الإسرائيلى؟ يكفى للإجابة عن السؤال أن نقارن بين ما يفعله إمبراطور الإعلام اليهودى مردوخ وما يكرسه من مال وجهد للترويج لصورة إسرائيل وبين دور بعض أباطرة الإعلام العربى!! (3) الدرس الإسرائيلى الثالث الذى لم نحاول أيضا إدراكه والاستفادة منه هو مفاهيم القوة والمصلحة والهدف فى العقل الإسرائيلى. بدا فهمنا وتطبيقنا لهذه المفاهيم الثلاثة يختلف إلى حد بعيد عن الفهم الإسرائيلى لها. فقد أدركت إسرائيل كما يدرك كل قارئ للتاريخ، ولو كان متوسط الذكاء، أن مظاهر القوة هى التى تصنع الحقائق على الأرض وتحدد أوزان الدول. منذ اللحظة الأولى لقيامها وإسرائيل لا تكف عن البحث عن مصادر وأسباب القوة بما فيها امتلاك السلاح النووى حتى نجحت فى امتلاكه فى فترة وجيزة. أما مفهوم القوة فى العقل العربى فقد بدا مشوشاً وأحياناً ساذجاً. فالعرب يتحدثون عن القوة كل يوم لكنهم لم يكونوا جادين يوما فى امتلاكها. وحينما أطلق شعار «ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة» وهو شعار بسيط ومنطقى وكفيل بإثارة الجماد، فإنه بقى فى الحالة العربية مجرد شعار لا أكثر. وكان سلاح المال لدى العرب كفيلا بزلزلة الأرض تحت أقدام أعدائهم لكنه فيما يبدو زلزل أشياء أخرى! وظلت الحجة الرسمية لانصراف العرب عن المواجهة العسكرية لإسرائيل لاسترداد حقوقهم هى الانشغال بالتنمية كمظهر لامتلاك القوة، لكن سرعان ما ثبت بعد عقود من الزمن أن العرب لم يحققوا على صعيد معركة التنمية انجازاً يذكر على الأقل مقارنة ببعض دول آسيا المتوسطة والصغيرة مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا. وكان مفهوم المصلحة فى العقل الإسرائيلى درسا آخر لم يجد من يلتقطه فى بلاد العرب. فعلاقات إسرائيل مع دول العالم كله وبوجه الخصوص مع القوى الكبرى مبنية على فكرة المصلحة. ومنذ أفل نجم الإمبراطورية البريطانية التى أعطى وزير خارجيتها بلفور فى العام 1917 أول صك تاريخى بأحقية إسرائيل المزعومة فى أرض فلسطين، سرعان ما راحت إسرائيل تنسج علاقة من نوع خاص مع القوة العالمية الكبرى ممثلة فى الولاياتالمتحدةالأمريكية. لم تمارس إسرائيل يوماً ولم تعرف ما يحلو لنا العرب أن نطلق عليه علاقات الأخوة والصداقة التى لا تسمن ولا تغنى من جوع. احتكمت إسرائيل إلى العقل وتركت لنا العواطف! وبينما كان العرب يعطون للغير ويجزلون العطاء باسم الصداقة والمعانى الخائبة الساذجة فى العلاقات الدولية دون أن يحصلوا على شيء أى شىء، كانت إسرائيل لا تعرف إلا لغة المصلحة حتى فى مواجهة أقرب حلفائها فلم تتورع مثلاً عن التجسس مراراً على حليفتها الكبرى أمريكا، ولم تأبه يوما بما نطلق نحن عليه قرارات الشرعية الدولية فواصلت عدوانها واحتلالها وبطشها وكأنها تتلذذ بامتهان العرب! (4) يقول الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور: «وامتدت الأنفاس مجهدة تراوغ أن تبوح بالانكسار إنى انهزمت ولم أصب من وسعها إلا الجدار والنور والسعداء من حولى وقافلة البيوت لكنه ألقى السلام....» [email protected]