يوم الجمعة الماضي، بثت وكالة أنباء الشرق الأوسط خبراً مختصراً يقول بالنص: «يجرى الرئيس حسنى مبارك اليوم (السبت) عملية جراحية لاستئصال الحوصلة المرارية بمستشفى هايدلبرج الجامعى بألمانيا.. وقد أصدر الرئيس مبارك قراراً جمهورياً رقم 60 لسنة 2010 يقول: بعد الاطلاع على الدستور وعلى قرار رئيس الجمهورية رقم 424 لسنة 2005 بتشكيل الوزارة قرر: يتولى السيد الدكتور أحمد محمود محمد نظيف رئيس مجلس الوزراء جميع اختصاصات رئيس الجمهورية طبقا للمادة 82 من الدستور إلى حين عودته إلى مباشرة مهامه». هذا الخبر «القديم» والذى شبع نشرا فى كل وسائل الإعلام – والذى تجاوزته الأحداث بإعلان آخر عن إجراء الجراحة بنجاح وتماثل الرئيس للشفاء- يتضمن رسائل «جديدة» ومهمة تتعلق بالسياسة المصرية. وربما كانت رسالته الأهم هى أن نشر الخبر، بهذا النحو وفى هذا التوقيت، يمثل نهجاً جديداً فى التعامل مع الحالة الصحية لرئيس الجمهورية، لم نألفه من قبل، ليس فقط مع الرئيس حسنى مبارك طيلة توليه منصب الرئاسة منذ ما يقرب من ثلاثة عقود متصلة، وإنما أيضا مع سلفه الرئيس الراحل أنور السادات، وكذلك مع الرئيس جمال عبدالناصر.. حيث ظلت صحة رئيس الجمهورية سراً من أسرار الدولة العليا ومحظوراً من محظورات الأمن القومى التى لا يجب الاقتراب منها. الآن.. ولأول مرة.. يصدر بيان رسمى .. يقول إن رئيس الجمهورية مريض، ويحدد نوع المرض، ومكان العلاج. وهذه مسألة طيبة تستحق التنويه والإشادة مقارنة بسياسة التعتيم السابقة التى كانت أحد الأسباب الرئيسية لتفشى الشائعات وما تثيره من بلبلة سياسية واقتصادية. وليس مناخ الشائعات هو مربط الفرس أو المشكلة الوحيدة لسياسة التعتيم المشار إليها، بل إن سلوك أى دولة من دول العالم فيما يتعلق بالإفصاح عن الحالة الصحية لرؤسائها أو وضعها خلف ستار من السرية، هو مؤشر على مدى تمتع هذه الدولة بالديمقراطية من عدمه. ففى كل الدول الديموقراطية لا تعتبر صحة الرئيس شأناً شخصياً يخص أسرته فقط. ولذلك جعلت النظم الديمقراطية حياة الرؤساء ومرضهم وصحتهم قضايا عامة يجب التعامل معها بشفافية كاملة، لا لشىء إلا لكى يطمئن المواطن إلى سلامة من يقودون سفينة الوطن. ولم يأت التشديد على حق الشعوب فى التأكد من سلامة الحالة الصحية لحكامها من فراغ، بل إنه جاء نتيجة خبرات متعددة، بعضها بالغ المرارة، وعلى سبيل المثال فإن اللورد ديفيد أوين قام بتأليف كتاب بالغ الأهمية بعنوان رئيسى هو «مرض فى السلطة» وعنوان فرعى «المرض فى حياة رؤساء الحكومات لأكثر من مائة عام»، تضمن وقائع مذهلة من بينها –مثلا- أنه فى الفترة من 1906 إلى 2006 واجه سبعة رؤساء أمريكيين أزمات صحية أدت إلى إصابتهم بأمراض خطيرة أثناء توليهم مناصبهم هم تيودور روزفلت، ووليم هاورد ثافت وديدرو ويلسون وكالفن كوليدج وهربرت هوفر وليندون جونسون وريتشارد نيكسون. حيث ثبت أن معظم هؤلاء قد أصيب بهوس اكتئابى أو اكتئاب حاد. كما أن عدداً من القادة فى دول أخرى قد أصيبوا بأمراض متنوعة، وبعضهم استطاع أن يخفى مرضه عن المقربين منه، وعن عامة الشعب. وكانت نتيجة هذا التعتيم وخيمة فى كثير من الحالات ودفع من تورطوا فيه ثمناً باهظاً. هذا يحدث فى النظم الديمقراطية، أما لدينا فإن الحاكم - سواء فى العهد الملكى أو فى النظام الجمهورى- ظل محصناً ضد المرض والوهن لا يجوز عليه ما يجوز على باقى خلق الله. فلم نسمع عن رئيس أو ملك أصيب بعارض ما، اللهم إلا عند عودته من رحلة الاستشفاء والتى عادة ما تكون خارج البلاد!! لذلك كله.. نرحب بالخبر الموجز عن حالة الرئيس مبارك الصحية. وتبقى –بعد الإشادة- ملاحظتان، إحداهما جوهرية والثانية فرعية. الملاحظة الأولى أن البيان المقتضب عن الحالة الصحية للرئيس مبارك –متعه الله بالصحة والعافية وأتم عليه الشفاء- قد حظى باهتمام استثنائى فى الداخل والخارج على حد سواء. والسبب فى ذلك ليس خافياً.. وهو باختصار أن عقدة «الخلافة» لهذا المنصب الرئاسى الرفيع الذى يتولاه مبارك منذ ما يقرب من ثلاثة عقود مازالت بدون حل، رغم أن الدستور يقدم حلا نظرياً لهذه المعضلة. لكن الخطاب النظرى والرسمى شىء والواقع السياسى شىء آخر تماماً. فمازالت كل السيناريوهات مطروحة، بما فى ذلك سيناريو تصاعد الضغط الذى تقوده المعارضة من أجل دستور جديد أو على الأقل تعديل الدستور الحالى سعيا وراء توافق وطنى حول قواعد جديدة للعملية الديموقراطية. وبما فى ذلك أيضاً سيناريو بقاء الحال على ما هو عليه وترشيح الرئيس مبارك نفسه مرة أخرى. وكذلك سيناريو التوريث وتمهيد الأرض أمام جمال مبارك لخلافة والده. وغنى عن البيان أن هذه السيناريوهات المتضاربة لا تؤدى فقط إلى بدائل متنوعة فيما يتعلق ب «شخص» الرئيس القادم، وإنما أيضاً إلى وضع البلاد على مسار مختلف لسنوات ليست قليلة. أما المسألة الفرعية –التى لم يفسرها لنا البيان المشار إليه- فهى لماذا يجرى الرئيس حسنى مبارك عملية استئصال الحوصلة المرارية فى ألمانيا بعيداً عن حضن الوطن؟ ألا ينطوى هذا القرار على إقرار ضمنى بأن مؤسسة العلاج فى مصر ليست على المستوى المطلوب، وأن الثقة فى المنظومة الطبية فى بلادنا ليست كاملة؟ وإلا بماذا نفسر أن عملية يفترض أنها بسيطة نسبياً -مثل عملية استئصال المرارة- لا نخاطر بإجرائها فى أحد المراكز الطبية المصرية؟! هل لدى وزير الصحة الدكتور حاتم الجبلى تفسير؟! وسلامتك يا ريس ... وسلامتك يا وطن. وتتبقى نقطة أخيرة تتعلق بتفويض الدكتور أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء القيام بكل صلاحيات رئيس الجمهورية. صحيح أن هذا التفويض ينسجم مع التعديل الأخير للدستور، لكنه يبقى تفويضاً من شخص يفترض أنه شغل منصبه نتيجة انتخابات مباشرة، إلى شخص –مع كل الاحترام له – ليست له أية صفة تمثيلية ولم يصوت الناس لصالحه بأى صورة من الصور. فكيف يوضع مصير البلاد فى يد «موظف» جاء بالتعيين؟! وسلامتك يا ريس.. وسلامتك يا وطن.