«ليست جريمة أن يمرض أى إنسان.. لكنهم يغلفون مرضه بغطاء من السرية التى بدأت تولد مشاكل ينبغى ألا تكون موجودة».. هكذا علقت وزيرة الإعلام النيجيرية دورا اكونييلى على هالة الغموض والتكتم الشديد التى تحيط بالوضع الصحى للرئيس النيجيرى عمر موسى يارادوا، الذى يعانى مشكلات مزمنة فى الكلى، ومضاعفات حادة ناتجة عنها فى عضلة القلب، متهمة الحاشية المحيطة بالرئيس، باستغلال مرضه لتحقيق مكاسب شخصية. كان الرئيس النيجيرى غادر بلاده يوم 23 نوفمبر من العام الماضى لتلقى العلاج فى السعودية، وعاد بصورة مفاجئة يوم 24 فبراير، ولايزال منذ عودته محتجباً عن الظهور العام، مما فاقم من الشائعات حول حالته الصحية. ودفع الغياب الطويل ليارادوا بلاده إلى حافة أزمة دستورية هددت بشل قطاع الأعمال فيها، إلى أن قام نائب الرئيس جودلاك جوناثان، فى منتصف الشهر الماضى بأداء القسم قائماً بأعمال الرئيس، إلا أن العودة المفاجئة ليارادوا من السعودية أدت إلى إثارة المخاوف من وقوع صراع بين الزمرة القوية التى تقودها زوجته توراى ومساعدون كبار آخرون، وبين نائبه جوناثان، بينما أعلن مستشار للرئيس- فى تصريح مقتضب- أنه من غير المحتمل أن يستأنف مهامه على الفور. وهكذا فتحت الحالة الصحية للرئيس النيجيرى ملف صحة الرؤساء والملوك وكيفية التعامل معه من جديد، حيث تظل الحالة الصحية للزعماء مثار جدل واسع، لما يترتب عليها من تحولات سياسية واقتصادية، خاصة فى البلدان التى تفتقد الديمقراطية أو تلك التى تعتمد التوريث فى تنصيب رؤسائها.. وفى معظم أنظمة الحكم، تحاط أمراض الرؤساء والملوك بهالة من التكتم الشديد، تقابلها شائعات وتكنهات وضغوط شعبية من أجل معرفة حقيقة المرض، بينما يستخدم خصوم الرؤساء وضعهم الصحى فى بعض الأحيان لزعزعة وضع نظام ما، حتى وإن كان الرئيس معافى. وغالبا ما تلجأ أنظمة الحكم العربية إلى نفى أو إخفاء مرض المسؤول الأول، بل تعمد فى بعض الحالات إلى تقديم دلائل على صحة الرئيس أو الملك، وهو السلوك الذى يصفه بعض المراقبين بأنه يشبه ما كان يلجأ إليه الاتحاد السوفيتى فى إخفاء مرض رؤسائه، منهم بريجنيف، حتى أصبحت تطلق ظاهرة «بريجنيف» على الدول التى تحكمها سلسلة متتابعة من مسؤولين كبار فى السن ومرضى، دون أن يعرف أحد أسرار أمراضهم، فهم أمام الجمهور وعلى الشاشات أصحاء رياضيون، وخلف الكواليس طريحو الفراش. وقد تداولت الصحف العالمية خلال الأيام الماضية أخباراً عن الحالة الصحية لعدد من زعماء العالم، منهم الرئيس الأمريكى باراك أوباما، الذى خضع لأول فحص «روتينى» منذ توليه منصبه، وأفاد بأنه يتمتع ب«صحة ممتازة»، إلا أنه لايزال يفرط فى التدخين، ويعانى آلاماً فى الركبة وارتفاع نسبة الكوليسترول فى الدم. ومن الولاياتالمتحدة إلى تايلاند، حيث أفادت وسائل الإعلام المحلية بأن الملك بهوميبول أدولياديج (82 عاماً) عاد إلى المستشفى أول مارس، بعد يوم واحد من مغادرته وانتقاله للقصر الملكى فى بانكوك، بينما لم يصدر القصر أو الحكومة أى بيان حول حالته الصحية. كان بهوميبول، الذى يعد صاحب أطول فترة حكم لملك فى العالم، قد نقل إلى المستشفى لأول مرة فى 19 سبتمبر الماضى مصابا بمشكلات فى التنفس وإعياء وحمى، وأثار بقاؤه فى المستشفى لفترة طويلة اضطرابات فى سوق الأوراق المالية فى نوفمبر الماضى بسبب شائعات حول تدهور حالته الصحية، لكن ظهوره فى 3 مناسبات عامة قضى عليها. ويذخر التاريخ بعدد من المحطات فى حياة الرؤساء والملوك، لعب فيها المرض دورا حاسما فى حياة الزعماء والشعوب على حد سواء، فقد أظهر بحث بريطانى نشر عام 2006 أن 29% من الرؤساء الأمريكيين عانوا أمراضاً نفسية أثناء توليهم السلطة، وأن 49% عانوا من تلك الأمراض خلال فترة فى حياتهم، وهى تعد نسبا عالية عند مقارنتها بنسب الإصابة بهذه الأمراض بين المواطنين. ويشير اللورد ديفيد أوين فى كتابه «مرضى فى السلطة» إلى أن 7 رؤساء أمريكيين خضعوا لتحقيقات حول إصابتهم بأمراض عقلية أثناء توليهم مناصبهم بين 1906 و2006، وهم: ثيودور روزفلت وليندون جونسون (الهوس الاكتئابى)، ورديتشارد نيكسون (إدمان الكحوليات)، ووليم هاورد تافت (اضطرابات النوم)، ودوور ويلسون وكيلفن كوليدج وهربرت هوفر (اكتئاب حاد). لكن فى فرنسا، فإن المعلومة الوحيدة التى يحق للفرنسيين معرفتها فيما يتعلق بصحة رئيس الدولة، هى أن الرئيس بصحة جيدة تسمح له باتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية الدولية الكبرى التى تؤثر فى الشعب- بحسب رئيس التحرير المسؤول عن صحيفة «لوفيجارو» الفرنسية مارتن بيريز - مذكراً بأن الرئيس الأسبق فرانسوا ميتران، أخفى عن مواطنيه، منذ عام 1981. أما الرئيس جاك شيراك فقد ظل أطباؤه يلفون بقدر من الغموض موضوع العواقب الحقيقية لإصابته الوعائية الدماغية التى تعرّض لها عام 2005. وكان الرئيس الفرنسى الحالى نيكولا ساركوزى سُئل عندما رُشّح للرئاسة عما إذا كان سيقر أمام الفرنسيين بالأمراض الخطيرة التى قد يصاب بها أثناء وجوده فى السلطة، فأجاب: «نعم سوف أقرّ، ولابد من تعميم هذا الموضوع، وجعله أمراً عادياً وطبيعياً». لكن بيريز أوضح أن ساركوزى لم ينشر بيانات عن صحته سوى مرتين بعد نجاحه، رغم أنه وعد بنشرتين سنوياً، وكان ساركوزى تعرّض لوعكة صحية نهاية العام الماضى، اقتضت دخوله المستشفى. وبالتأكيد، فإن المرض يمكن أن يغير من شخصية الإنسان، لكن هذا التغيير يمكن أن يكون للأفضل فى بعض الأحيان، فالرئيس الأمريكى الأسبق فرانكلين روزفلت المصاب بشلل الأطفال يعد مثالاً على تحدى المرض، كما أن إصابة جون كينيدى بمرض «أندرسون»- مرض يصيب الغدد الصماء - تبرز كيف علينا ألا نضع المرض عاملا معوقا للوصول إلى أعلى المناصب فى الدولة. ويؤكد التاريخ أيضاً أن رئيس الوزراء البريطانى الأسبق ونستون تشرشل كان مدمناً للكحوليات وكان يعانى من وعكات صحية متكررة، ولكن دون أن يؤثر ذلك على رطانة خطابه، أو حتى على طاقته التى لا يصيبها الصدأ. ولكن يبدو أن مرض الزعماء فى الدول العربية هو جزء من الحالة الصحية للنظام السياسى، وأحد مركبات الأمن القومى، والحديث عنه يمثل فى كثير من الإحيان إفشاء لأسرار الدولة، ففى حين أحيط مرض زعماء عرب بحالة من الغموض، مثل الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات، والعاهل السعودى الراحل الملك فهد، وحاكم الإمارات الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وأمير الكويت جابر الأحمد الصباح، فلا يعد مرض الرئيس أو الوزير سوى خبر لا يحمل أى مفاجأة فى أماكن أخرى من العالم، فرئيس وزراء إسرائيل إيهود أولمرت أعلن بنفسه فى مؤتمر صحفى أنه مصاب بسرطان البروستاتا، وأنه سيضطر للخضوع لعملية جراحية، فى حين أثار كَشْف مصادر طبية فرنسية عام 2006 لحقيقة مرض الرئيس الجزائرى عبدالعزيز بوتفليقة، وهو سرطان الكلى، لغطا سياسيا وجماهيريا فى الجزائر. وعن سبب إخفاء الحكومات حقيقة مرض الزعماء وعدم إعلانها على الشعوب، يفسر بعض المحليون ذلك بأن هناك علاقة وثيقة بين السلطة والقوة منذ القدم، لذلك فإن رئيس الدولة يحرص على أن يبدو سليما معافى، ليوحى بأنه قوى مهاب فى دولته بين مستشاريه وشعبه، لذلك بات الرؤساء يحرصون على أن يتم تصويرهم وهم يمارسون الألعاب الرياضة، مثل ساركوزى، ويرى البعض الآخر أن الأمر له علاقة بفترة بقائهم فى الحكم حيث إن مرضهم فى ظل وجودهم فى السلطة لفترة طويلة قد يمثل حرجاً لهم وحينها يصبحون مطالبين بالتخلى عنها.