كان موقفاً هزلياً الاجتماع الأول لتلك اللجنة المشؤومة المسماة «اللجنة التأسيسية للدستور»، فقد تغيب عن حضورها أكثر من 25٪ من الأعضاء الذين استقالوا احتجاجاً على الطريقة التى شُكلت بها، فخلت اللجنة من ممثلى مختلف فئات الشعب ولم يحضرها إلا أتباع الاتجاه السياسى الذى شكلها. والحقيقة أن الهزل لازم هذه اللجنة منذ اللحظة الأولى لتشكيلها حين قرر حزب «الحرية والعدالة» الاستئثار بها ليكتب دستور مصر وفق هواه، وذلك بعد أن أسكرته الغلبة التى حصل عليها فى البرلمان، وأقول «الغلبة» وليس الأغلبية لأن الحزب لم يحصل على الأغلبية بالمعنى السياسى المفهوم، حيث لم يفز بالنسبة اللازمة للأغلبية وهى أكثر من 50٪ من المقاعد، ومع ذلك فقد أسكره ذلك الفوز فأتى بتصرفات لا تصدر عمن هو فى كامل قواه العقلية. لقد تصور الحزب أنه بتلك الغلبة، التى حصل عليها بالخداع من بسطاء هذا الشعب، قد أصبح المتحكم الأوحد فى الحياة السياسية، ومن ثم فإن من حقه أن يحصل على الوزارة وأن يكتب الدستور وأن يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية. وفى الوقت الذى ينص فيه الإعلان الدستورى على أن يقوم البرلمان بمجلسيه بانتخاب أعضاء اللجنة التأسيسية للدستور، فإن حزب الغلبة البرلمانية تخطى هذا الحق ليقوم بترشيحهم أيضاً، بنسبة غير منصوص عليها فى الإعلان الدستورى وهى 50٪، بل وبترشيح نسبة ال50٪ الأخرى بالمخالفة للإعلان الدستورى الذى أعطى البرلمان، ولم يعط حزباً بعينه، حق الانتخاب وليس حق الترشيح. إن هذا المسلك المعوج إنما يذكرنا بالادعاء الذى كان يتسم به أداء الحزب الوطنى المنحل، حيث كان يعطى لنفسه حق اختيار من يمثلون الآخرين فى البرلمان، سواء كانوا أحزاباً أو قوى سياسية أو اجتماعية، فيقول هؤلاء هم المسموح لهم بتمثيل المعارضة أو الأقباط أو المرأة، بل إن ذلك يذكرنا بالصلف الإسرائيلى المعهود الذى كان يرفض مثلاً التفاوض مع ياسر عرفات ويطالب بطرف آخر يرضى هو عنه. وما بين الادعاء والصلف سقطت شرعية اللجنة فانفض عنها كل من وقع عليه الاختيار السامى من غير أعضاء حزب الغلبة البرلمانية، فلم تعد صالحة لكتابة الدستور وصارت أى وثيقة تصدر عنها أقرب إلى «المانفستو» المعبر عن رأى حزب واحد، تماماً مثل «المانفستو» الذى يصدر عن حزب شيوعى يعبر عن رؤيته السياسية الخاصة ويحدد المبادئ التى يرى أنه ينبغى أن يقوم عليها حكم البلاد، وهذا من حق حزب الغلبة البرلمانية بلا شك، لكنه ليس من الدستور فى شىء، لأن أياً منا لم يشارك فى كتابته. لقد جاءت اللجنة التأسيسية خالية تماماً من عقول مصر المشهود لهم عالمياً فى مختلف المجالات، بما فى ذلك الأدب والفكر والثقافة، وقد رشح اتحاد كتاب مصر فى خطاب رسمى لرئيس مجلس الشعب عشرة أسماء تمثل أكبر القامات الأدبية والثقافية والفكرية فى مصر فرفض جميعها ولم يؤخذ منها اسم واحد، لا فى القائمة الأساسية ولا فى القائمة الاحتياطية، أليس فى هذا ادعاء وصلف؟! وتماماً مثل الحزب الوطنى المنحل، فإن حزب الغلبة البرلمانية اختار أن يلجأ إلى أسلوب الإنكار فصرح رئيس اللجنة، بعد اجتماعها الأول، بأن إنعقادها كان صحيحاً، وأن أحداً من أعضائها لم يستقل لأنه لم يتلق خطابات رسمية بالاستقالة، وأنه يعتبر من استقالوا مجرد متغيبين عن الجلسة، وقال إنه سيفاتحهم فى حضور الجلسة المقبلة. وكأن شيئاً لم يحدث، فهل هذا معقول؟ وهل تلك هى الطريقة التى سيديرون بها البلاد؟ لقد ساهمت أزمة لجنة الدستور الهزلية فى تأكيد الانفصال التام بين الحزب الذى يريد أن يستحوذ على كل شىء على طريقة الحزب الوطنى المنحل وبقية الحياة السياسية المصرية، أما الدستور فإنه لن يأتى من هذه اللجنة، وإنما من اللجنة الشعبية التى شُكلت لهذا الغرض، والتى تعبر بحق عن جميع فئات المجتمع واتجاهاته السياسية. [email protected]