غداً يجتمع مجلس الشورى فى أول جلسة له بعد انتخابه، ويوم السبت المقبل 3 مارس يجتمع مجلسا البرلمان: الشعب والشورى، فى الاجتماع المشترك المقرر فى الإعلان الدستورى لانتخاب اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور. وكلنا يعرف الآن أن هذا الإعلان لم ينص أو يتضمن أى طريقة محددة ولا أى معيار يذكر لانتخاب اللجنة ولا أى حصص أو نسب محددة لأى فئة فى المجتمع المصرى بما فيها أعضاء البرلمان أنفسهم. وبذلك فإن انتخاب اللجنة التأسيسية للدستور يظل من الناحية الشكلية شأناً خاصاً بالأعضاء المنتخبين بمجلسى البرلمان، الذين يبلغ عددهم فى مجلس الشعب 332 عضواً وفى مجلس الشورى 180 بمجموع 512 عضواً. إلا أن الحقيقة تختلف عن الشكل والنص الدستورى، حيث إن اختيار اللجنة التأسيسية لصياغة دستور مصر لما بعد الثورة يجب ألا يقتصر على ما قد يراه أعضاء البرلمان، بالرغم من انتخابهم جميعاً بطريقة حرة ونزيهة، فوضع الدستور هو مهمة تتجاوز ما انتخب من أجله أعضاء البرلمان، وهو التشريع القانونى والرقابة على الحكومة، إلى حيث يجب أن تكون مسندة إلى ممثلين حقيقيين لجميع فئات المجتمع السياسية والاجتماعية ومناطقه الجغرافية وأجياله العمرية وأديانه وطوائفه الدينية وجنسيه من رجال ونساء. ومن هنا فإن جميع المحاولات والمبادرات والاقتراحات التى جرى تداولها والخلاف حولها خلال الشهور السابقة حول وضع معايير لتشكيل اللجنة التأسيسية للدستور كانت تسعى بصور مختلفة إلى تحقيق هذا التمثيل الضرورى والمناسب لجميع مكونات المجتمع المصرى فيها. ومن هنا أيضاً فإن المهمة الأولى التى يجب على مجلسى البرلمان القيام بها، ربما قبل اجتماعهما المشترك فى الثالث من مارس، هى أن يتفقا على المعايير والضوابط التى سيتم على ضوئها اختيار أعضاء اللجنة التأسيسية. وأمام لجان مجلس الشعب حالياً، سواء فى الاقتراحات والشكاوى أو الدستورية والتشريعية، عدة مشروعات مقدمة من بعض أعضائه بوضع معايير وضوابط اختيار اللجنة، وهو ما يمكن أن يشكل أساساً موضوعياً لتوافق المجلسين حولها. ويعنى هذا بصورة عملية أن يتعامل المجلسان مع هذه المشروعات باعتبارها طرحاً جاداً لقانون مكمل للدستور يجب عرضها على المجلسين والتوصل لصياغة نهائية له قبيل اجتماعهما المشترك أو بعده بأيام قليلة، وهو ما يعنى توافر أساس قانونى متفق عليه لمعايير وضوابط اختيار أعضاء اللجنة. إلا أن التوصل لهذا القانون بصورة مرضية ومتوافق حولها يستلزم من أعضاء مجلسى البرلمان ورئيسيهما أن يسعيا بأقصى سرعة ممكنة فى الأيام القليلة المتبقية حتى اجتماعهما المشترك لأن يديرا حواراً واسعاً وجاداً ومكثفاً مع كل الاقتراحات الخاصة بتشكيل اللجنة التأسيسية من أجل التوصل لصياغة توفيقية لها من بين ما هو مطروح، بحيث تتحول لمشروع قانون يقوم المجلسان بتشريعه ثم تطبيقه بعد ذلك فى تشكيل اللجنة. والأمر ليس معقداً ولا صعباً، فلدينا بالفعل الآن عدة اقتراحات محددة بخصوص هذا التشكيل لكل منها أصحابه ومؤيدوه، ويمكن بسهولة لكل من مجلسى البرلمان تكليف لجنة مصغرة بحصرها وتوضيح نقاط الاتفاق والاختلاف فيما بينها وطرح مقترحات توفيقية للجمع بين نقاطها الأساسية، وذلك بدعوة أصحابها للنقاش حولها مع هذه اللجنة البرلمانية المصغرة للتوصل إلى تلك الحلول الوسط. وتبقى بعد ذلك المهمة الرئيسية للجنة والتى تنتظرها مصر كلها، وهى التوصل لصياغة دستور يجمع آراء وتوجهات المصريين المختلفة ويعبر عن مصالحهم وأهداف ثورتهم فى صياغة نظام سياسى ومجتمعى يليق بهم ويحظى برضاهم جميعاً. ولاشك أن أمام هذه المهمة صعاباً كثيرة وعقبات أكثر أبرزها الخلافات الدائرة حول موقع الشريعة الإسلامية من الدستور القادم والعملية التشريعية التى سيقوم بها مجلسا البرلمان بعد إقرار الدستور. وقد تعددت الاقتراحات والصياغات المختلفة لحل هذه الإشكالية بصورة توافقية وبخاصة لنص المادة الثانية من الدستور المعطل، وهو ما يدفعنا إلى طرح اقتراح محدد لتجاوز هذه المسألة. ينبع هذا الاقتراح من حقيقة أن هناك ما يشبه الإجماع بين مختلف القوى السياسية والحزبية على أن النص الحالى للمادة الثانية، الذى يجعل من مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، يمثل الحد المشترك المتوافق عليه، بين كل هذه القوى، حيث يراه بعضها حداً أدنى لما يمكن أن يوافق عليه، بينما يراه بعضها الآخر الحد الأقصى الذى يمكن أن يقبله. وربما يكون من الأنسب فى الوقت الراهن أن تبقى المادة كما هى دون تعديلات أو إضافات جوهرية، وأن يظل معها دون إضافة أو تعديلات الأبواب الموجودة فى الدستور المعطل الخاصة بالحريات والواجبات والحقوق والتى توافق عليها بلا تحفظات جميع القوى السياسية تقريباً. وبذلك فإن الأجزاء الخاصة بالحريات والشريعة الإسلامية القائمة فى الدستور المعطل تظل قائمة، ويمكن فى هذه الحالة أن تضاف إليها فقط مواد تتعلق بطبيعة النظام السياسى الجديد المقترح إقامته فى البلاد بعد الثورة ومكوناته الأساسية. ويعنى هذا المقترح أن تصوغ اللجنة هذه المرة ما يمكن أن نسميه «الدستور المصغر» الذى سبق لعدد من المجتمعات أن تبناه فى لحظات التحول الكبرى التى مرت بها، ومن بينها بولندا أثناء تحولها من النظام الشيوعى إلى النظام الليبرالى. ووظيفة الدستور المصغر هى أن يتضمن مواد مفصلة وواضحة حول شكل ومضمون السلطات المختلفة للنظام السياسى الجديد والعلاقات القائمة بينها فى ظل توصيف واضح لطبيعة النظام، وإذا ما سيكون رئاسياً محضاً أم برلمانياً صرفاً أم مختلطاً وبأى نسب بين النظامين. ومن شأن اقتصار الدستور المصغر على هذه المسألة الرئيسية أن يوفر أساساً موضوعياً ثابتاً لعمل سلطات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية والإعلام وقبلها رئاسة الجمهورية وتنظيم وتحديد العلاقات الدستورية فيما بينها بما لا يترك لأيها الجور أو التعدى على صلاحيات الأخرى، ويوفر مناخاً إيجابياً ملائماً لكى يعمل النظام السياسى الجديد بكفاءة تتطلبها المراحل القادمة لتطور الثورة المصرية. إن الأخذ بفكرة «الدستور المصغر» لا يعنى تأجيل الخلافات القائمة حالياً حول قضايا الهوية والانتماء الثقافى والدينى، فهى ليست محل نزاع حقيقى أو جوهرى بين المصريين، فهم جميعاً يقرون بانتمائهم التاريخى والثقافى إلى المجتمع المصرى المتدين أيا كان دينه والملتزم بالقيم العربية والشرقية التى يصعب الخروج منها أو عليها. ولكن ما يعنيه الأخذ بالدستور المصغر هو تجاوز الخلافات المبالغ فى تضخيمها والانطلاق فوراً لبناء النظام السياسى الجديد الفعال القادر على إنجاز أهداف الثورة وتحقيق ولو جزء من أحلام المصريين المجهضة طوال سنوات حكم النظام البائد. [email protected]