في مؤتمر شعبي في مدينة بورسعيد، وقف نائب البرلمان الشاب: «زياد العليمي» يتحدث عن ضرورة محاسبة المسؤول الحقيقي عن مذبحة بورسعيد، مشبّهاً إلقاء اللوم على مدير أمن بورسعيد بدلاً من محاسبة الحاكم الفعلي للبلاد والمسؤول الأول عمّا حدث: المشير طنطاوي، بالمثل الشعبي المصري الشهير: «ماقدرش على الحمار، اتشطّر على البردعة»، يسأله أحد الحاضرين عمّن يقصد بالحمار، فيجيب زياد بابتسامة خفيفة: المشير. في اليوم التالي، كان على «زياد» أن يواجه عاصفة من النقد، داخل البرلمان وخارجه، على جرأته في تشبيه المشير بالحمار في المثل الشعبي إياه، أخبره رئيس البرلمان أنه تلقى العديد من البرقيات من «مواطنين غاضبين» يطلبون منه محاسبة زياد، ومنذ أيام انطلقت مسيرة لضباط جيش متقاعدين إلى البرلمان اعتراضاً على ما اعتبروه «إساءة بالغة» للمؤسسة العسكرية، كذلك صرّحت هيئة القضاء العسكري أنها تلقت المزيد من البلاغات التى تطالب بتحريك دعوى قضائية ضد «زياد» وأفادت أن مقدمي البلاغات اعتبروا أن «كلام» زياد من شأنه إحداث «الأذى النفسي والمعنوي للقوات المسلحة بشكل عام، فضلاً عن تسببه فى تكدير الأمن والسلم العام»! أقدّر كثيراً ما يعنيه أن يكون المرء عضواً برلمانياً، وما يفرضه عليه موقعه النيابي من دبلوماسية مفترضة في الحديث والإشارة إلى شخصيات عامة أخرى، هذا مما يتطلبه العمل السياسي دون شك، فقط أفكر ماذا لو لم يُجبْ «زياد» على سؤال: من الحمار؟، أو أجاب بشكل دبلوماسي أنه لا يقصد المعنى لفظاً، أو أجاب دون ابتسامته الساخرة، ربما لم يكن تشبيهه لينل كل هذا الاهتمام الإعلامي والبرلماني، مثيراً كل هذه الأزمة المفتعلة، رغم وصول نفس المعنى كاملاً بتمامه وتشبيهه. إلا أن الموضوع ليس بهذه البساطة في رأيي، ليس الأمر مجرد «مسألة أخلاقية» حول كيف يجب أن يتحدث نائب البرلمان عن حاكم البلاد، الموضوع على نحو أعمق يتضمن عدد من المعطيات التي يجدر بنا تأملها جيداً، منها ما يتعلق ب«زياد» نفسه: أن «زياد» قد أجاب على السؤال مباشرةً، دون مواربة أو حذر، دون لفّ أو دوران، «زياد» أجاب كذلك بابتسامة ساخرة واضحة،«زياد» كذلك أحد نوّاب البرلمان «الشباب»، وعضو ائتلاف «شباب الثورة». ومنها ما يمكن أن نقرأه بوضوح في حجج المحتجين على «تشبيه» زياد والمتشنجين في إدانته، وفي صياغات البلاغات الرسمية المقدمة ضده: إساءة للمؤسسة العسكرية_ التسبب في أذى نفسي ومعنوي للقوات المسلحة _ التسبب فى تكدير الأمن والسلم العام. نحن هنا أمام مواجهة واضحة بين ثقافتين، ربما كذلك بين جيلين، الأولى: ثقافةٌ تعتبر حاكم البلاد، أياً كانت رتبته العسكرية، قابلاً للنقد، قابلاً للتشبيه المهين ربما، ينطبق عليه في ذلك وصف «الموظف العام»، الذي بموجبه يوجّه الإعلام والصحف لرؤساء الدول وكبار المسؤولين النقد اللاذع والصادم والمهين أحياناً، في المقالات والنكات والكاريكاتير. هذه الثقافة كما يتضح من الدعم الذي تلقاه «زياد» من عدد كبير من «الشباب» تحديداً، ليست مجرد قناعة شخصية فردية لديه، أو أداء غير مبرر من «زياد العليمي»، بل ثقافة حقيقية في جيل شبّه «مبارك» في ميدان التحرير أثناء الاعتصام الكبير في أحداث الثورة المصرية بما هو أكثر قسوة وإهانة من التشبيه بالحمار، بل ربما قبل ذلك في تظاهرات كفاية 2005 وما تلاها، وليس «مبارك» فحسب، بل مسؤولي نظامه وأسرته وأعضاء حزبه الحاكم، جيل يمكنك أن تلاحظ أينما ذهبت أعمال الجرافيتي التي يملأ بها الشوارع، والتي تتضمن إهانة مباشرة للمشير طنطاوي ورئيس الوزراء وقيادات عسكرية أخرى متورطة في العنف، بوضوح وصراحة ومباشرة، بمعنى أن ما قاله «زياد» ليس نشازاً ولا خروجاً عن النص. هذه الثقافة لا تعبر عن جيل «قليل الأدب» أو «مالوش كبير» كما يحلو للبعض أن يفهمها، بل هي ثقافة احتجاج في الأساس، ثقافة رفض وتحطيم لكل هالات القداسة والحصانة التي يحوط بها المجتمع أفراد السلطة وممثليها، والتي ربما لم تكن لتصدر بهذه الحدة والعنف على الجدران وفي التصريحات، لو كان هؤلاء الأفراد والمسؤولين قابلين للنقد والمسائلة والمحاسبة الفعلية. أما الثانية: فهي ثقافة أخرى تعتبر حاكم البلاد، ومدير المؤسسة العسكرية، هو المؤسسة العسكرية نفسها، إهانته إهانتها، تشبيهه بالحمار يتسبب في تكدير الأمن والسلم العام!، على نحو قريب من مبارك القائد، الأبّ، بطل حرب أكتوبر، الذي يُعتَبَر المساس بسمعته أو نزاهته المالية مساسٌ مباشر بمصر وأمنها ومكانتها!، كما كان عليه الأمر قبل الثورة المصرية وبلورته الصحف القومية مراراً وتكراراً على لسان رؤساء تحريرها الأفاضل، كأنها تعيد تلقين الجماهير أن «هيبة رئيس مصر»، هيبة «الحاكم»، لا يجوز الاقتراب منها بمكان، فالرئيس يلخّص مصر في ذاته، ومصر تتجلى كاملة عبر ذات الرئيس الفرد، بالضبط كما تجلت وتلخّصت هيبة وكرامة المؤسسة العسكرية في شخص «المشير طنطاوي». وهذه الثقافة يتشبث أصحابها بشدة بمفاهيم مثل: «العيب» و«مايصحش» و «احترام الكبير»، كتبرير ذي قبول واسع لدى المجتمع لا لشيء إلا لتبرر ثقافتهم ذاتها، من أنه يجب المحافظة على أن يكون هناك أفرادٌ وخطوطٌ حمراء فوق النقد أو التلويح بالمسائلة، خوفاً ربما على سلطتهم هم، الأبوية المطلقة، في مساحات أخرى من نقد ومسائلة الشباب «قليلة الأدب»، هذا يفسر استدعاءهم لهذه المفاهيم الأخلاقية فقط حين يحتاجون إليها، دون أن يلتفتوا إليها أو يستدعونها بهذه القوة، حين يتجاوزها نائب برلمان في حديثه في إحدى الجلسات عن شخصية مصرية ودولة مرموقة ويصفها بالخيانة أو العمالة. إنها ليست مواجهة أخلاقية، بل مواجهة سياسية واجتماعية في الأساس، في بلد في مرحلة انتقال حرجة من دولة «الفرد الحاكم» إلى دولة المؤسسات، التي تحكمها المبادئ والقانون دون أن تتلخص في «فرد» أو «قائد»، بما يستلزمه ذلك من تحريك لكل مفاهيم «هيبة الرئيس» و مختلف أشكال الحصانة والقداسة التي ترفع أفراداً في مواقع الإدارة إلى مصاف الرموز أو الكائنات العليا غير القابلة للنقد، فما بالك بالتشبيه البلاغي بكائن غلبان آخر كالحمار. هذا يمكن بشكل ما أن يفسر لما طفت «هفوة» بلاغية لأحد النوّاب، ونالت كل هذه الاهتمام البرلماني والمجتمعي الشديد، الذي تصاعد ليشكّل أزمة استلزمت رسائل متبادلة بين البرلمان والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتصويتًا بين الأعضاء على قبول اعتذار زياد من عدمه، ولغطاً وهياجاً وصراخاً وتشنجاً في الجلسات الرسمية لمجلس الشعب التي تنتظر على قائمة أعمالها العديد من القضايا الحيوية والحساسة، والتي كانت أولى دون شك بكل هذا الوقت والجهد في برلمان بلد قامت به ثورة.