انحصر النقاش حول موضوع الجيش فى علاقته بالسياسة وضمان نقل السلطة لرئيس مدنى منتخب وإنهاء حكم المجلس العسكرى، أما الحفاظ عليه كمؤسسة وطنية فقد غاب كثيرا عن النقاش العام فى ظل معركة السياسة المشتعلة. والمؤكد أن الجيش المصرى له مكانة خاصة فى نفوس الشعب المصرى، وأى محاولة لإهانته أو التشكيك فى دوره فى نهضة هذا البلد أمر لا يقبله عموم المصريين، فقد ظل عماد الدولة منذ أسسها محمد على عام 1805 حتى الآن. ومع ذلك ظل دوره السياسى محل خلاف، فجيش مصر السياسى صنع ثورة يوليو 52 التى كانت جزءا من تجارب التحرر الوطنى فى كثير من بلدان العالم وجلبت الاستقلال ولم تجلب الديمقراطية، وأنجبت قادة عظاما مثل «عبدالناصر»، وزعماء فاسدين ومستبدين حُسبوا عليه ولو بسبب «البدلة الميرى» مثل «مبارك». إن عصر الجيوش التى تحكم أو الجيوش التى تثور قد انتهى تقريبا من العالم كله، رغم دور وتأثير المؤسسة العسكرية فى كل دول العالم من أمريكا حتى أفريقيا، وأصبح من المهم أن نقنن ونحمى وضعية الجيش المهنى، ونحن لدينا فرصة تاريخية لإنهاء دور الجيش الذى يحكم. المؤكد أن مصر الجديدة سترث جيشا أسس بعد هزيمة 67 لمشروع الجيش المهنى المنضبط - حتى لو أثر فى السياسة أو اضطرته الظروف أن يدير شؤون البلاد فى أعقاب ثورة 25 يناير - بمعنى أنه جيش مهنى ليس بداخله أحزاب وليست له علاقة بالسياسة، وفجأة وجد نفسه مسؤولا عن إدارة المرحلة الانتقالية الأخطر فى تاريخ مصر بكل مشاكلها وتجاذباتها، فارتكب المجلس العسكرى أخطاء عديدة، وبات شبح العودة للجيش السياسى يمثل أكبر عائق أمام نجاح تجربة التحول الديمقراطى فى مصر. إن العودة إلى الجيش السياسى لا تكمن فقط فى أن يحكم البلاد، لأن المصريين بوعيهم لن يقبلوا هذا الحكم، والجيش بحسه الوطنى لن يسعى إليه، إنما الخطر الحقيقى أن تدخل «مشاكل السياسة» إلى بنيته الداخلية فيتم اختراقه من تنظيمات سياسية وتبرز بداخله صراعات حزبية، ونعود لصورة الجيش عشية ثورة يوليو حين كان الإخوان والشيوعيون والليبراليون مخترقين الجيش المصرى. علينا أن نتصور حال مصر لو أنه عشية اندلاع ثورة 25 يناير كانت فرق الجيش المصرى شبيهة بتلك التى كانت فى 52، ورأينا فرقة ل«الإخوان» وثانية ل«مبارك» وثالثة مستقلة، لكانت مصر دخلت فى حرب أهلية لا يعرف نتائجها إلا الله، ولأصبح الحديث عن الديمقراطية ونقل السلطة ترفا أمام طوفان الدمار والخراب الذى كان يمكن أن يصيب هذا البلد. نعم هناك خطر من «تسييس الجيش»، ولذا يجب حمايته والحفاظ عليه بعيدا عن الأحزاب التى ستحكم، والتى يمكن أن تخترق الشرطة والقضاء وبعض مؤسسات الدولة، ولكن يجب ألا يسمح مواطن مصرى واحد بأن يخترق الجيش. إن القوات المسلحة بحاجة إلى تشريعات تضمن استقلالها المهنى، وتتيح لها أيضا تجديداً داخلياً من خلال قواعد مهنية صارمة يظهر فيها جيل جديد من العسكريين المصريين ترقوا فى مناصبهم عبر تقاليد المؤسسة الوطنية الكبرى فى مصر وليس عبر اختيارات السياسة وأهوائها. [email protected]