لم يحظ مؤتمر قمة كوبنهاجن، المعنى بمناخ الأرض، باهتمام شعبى يذكر.. حتى المظاهرة المتواضعة، التى كان من ضمن أهدافها لفت الأنظار تجاهه، والتى كان مزمعاً تنظيمها داخل حرم الأوبرا، تم منعها من قبل الجهات الأمنية، والمشاكل اليومية الطاحنة تطغى على عقل الإنسان المصرى العادى.. فى مثل هذه الأحوال، قد يعتقد البعض أنه ربما من الأفضل أن نترك مشاكل الأرض لسكانها ال«فايقين» نسبيا (والمنتجين للكم الأكبر من غازات الاحتباس الحرارى)، وكأن الموضوع لا يعنينا، رغم أن مصر بالذات معرضة لكوارث محققة خلال المستقبل المنظور إذا استمر ارتفاع معدل درجات الحرارة على كوكبنا. ثم ما هى العلاقة بالضبط، قد يتساءل البعض الآخر، بين عادم السيارات والمصانع والاحتباس الحرارى؟ ومن قال إن الارتفاع الحرارى خلال القرون الماضية جاء نتيجة التدخل الإنسانى؟ هذه أسئلة مهمة، ليس فقط لأنها تشغل العلماء العاملين فى مجال المناخ، بل لأن الرد عليها يتطرق لصميم طبيعة المنهج العلمى نفسه.. فوجود علاقة تناسب بين شيئين– بين ضخ المزيد من ثانى أكسيد الكربون فى الجو خلال القرون الماضية وارتفاع معدل درجة حرارة الأرض الذى صاحبه مثلا- لا يعنى وجود علاقة سببية بينهما.. فالطالب الذى رسب فى الامتحان ثم مات والده فى اليوم التالى، نتيجة سكتة قلبية مثلا، قد يعتقد أنه هو السبب فى وفاة والده، رغم أنه من الصعب التيقن بذلك، دون معرفة ماذا كان سيحدث فى حالة نجاحه.. فعلى عكس الفكر السطحى، الذى قد يجد علاقات واهية فى كل شىء، فإن العلم يتبنى معايير صارمة للتيقن من وجود علاقات سببية، حتى يفصل الصدفة عن العلاقات الحقيقية العميقة. فى علم الفيزياء، المعيار الأدق للتيقن من وجود علاقة سببية بين الظواهر المختلفة يكمن فى إمكانية التنبؤ من خلال النظرية بوجود تلك العلاقة. وفى حالة الاحتباس الحرارى، من حيث المبدأ، هذا اليقين موجود بالفعل، لأن غازاً مثل ثانى أكسيد الكربون، يسبب فعلا الاحتباس الحرارى، لأنه يمتص الحرارة فى الغلاف الجوى، حتى لا تستطيع الهروب للفضاء الخارجى.. يفعل ثانى أكسيد الكربون ذلك لأن ذرات الأكسجين والكربون فى جزيئاته مربوطة بما يشبه ال«سست» المرنة، التى تتصادف ترددات اهتزازاتها مع تردد الإشعاع الحرارى.. لذا يمتص هذا الغاز الطاقة الحرارية، فيحبسها داخل الغلاف الجوى، فتتصاعد درجة حرارته. لكن كيف يمكن التيقن من أن تزايد نسبة ثانى أكسيد الكربون هو المسؤول الأول عن ارتفاع معدل درجات الحرارة المرصود خلال العقود والقرون الماضية، وليس عوامل أخرى، كالتغيرات المرحلية فى الطاقة المنبعثة من الشمس مثلا؟ ما يفعله العلماء للرد على مثل هذا السؤال هو محاولة الفصل بين تفاصيل تداعيات الظاهرتين.. فمثلا، إذا كان الاحتباس الحرارى هو السبب، فمن المتوقع أن يسود الارتفاع الحرارى الأكبر طبقات الغلاف الجوى السفلى، أما إذا كانت التغيرات الشمسية هى السبب، فالارتفاع سيسود كامل الغلاف الجوى بطريقة متساوية، والإرصادات تشير إلى أن الحالة الأولى هى السائدة، أى أن الاحتباس الحرارى هو المؤدى لارتفاع حرارة كوكبنا. الحال هنا مختلف عن حالة الطالب الذى رسب فى الامتحان قبل وفاة والده، فرغم أنه لا يمكن أن نعرف تجريبيا ما كان سيحدث لمناخ الأرض إذا لم تتبلور الثورة الصناعية، فإنه يمكن خوض حسابات تبرز دلائل وبصمات معينة تساعدنا على كشف ما حدث. مع ذلك، فإن الحسابات المناخية معقدة للغاية، فلا يمكن حتى التنبؤ، بدقة، بحالة الطقس إلا لبضعة أيام، رغم أنه من السهل حساب وتحديد مدار الأرض حول الشمس لمئات ملايين السنين، لأن الظاهرة الثانية تخضع فقط لقوانين نيوتن، البسيطة نسبيا، أما مناخ الأرض فتؤثر عليه عوامل كثيرة متشابكة، كحركة الهواء والتبخر وانتشار السحب وتكاثفها... إلخ، لذلك ما زالت أقلية من العلماء تشكك فى حسابات تغير المناخ، وبتنبؤاتها الكارثية بخصوص مصير الكرة الأرضية إذا استمر الضخ الصناعى لغازات الاحتباس الحرارى بالمعدلات الحالية. لكن هناك أيضا إشارات كونية لمصير الأرض فى حالات كواكب أخرى بالمجموعة الشمسية، فكوكب الزهرة، مثلا، يستقبل ضعف الطاقة الشمسية التى تستقبلها الأرض (لأنه أقرب إلى الشمس)، لكن حرارة سطحه تصل إلى 420 درجة مئوية (أى حوالى 10 مرات أقصى درجات الحرارة على الأرض، مما يعادل درجة حرارة الفرن المنزلى)، والسبب فى ذلك هو أن الغلاف الجوى هناك مكون فى أغلبه من ثانى أكسيد الكربون. ويعتقد الكثير من العلماء أن مناخ الزهرة كان يشبه مثيله الأرضى منذ زمن بعيد، ولكن فرق الطاقة الشمسية المستوعبة هناك قد أدى إلى تبخر المياه الموجودة على سطحه، والذى أدى بدوره إلى مزيد من الارتفاع فى درجة الحرارة وتضاؤل المياه (التى تمتص ثانى أكسيد الكربون)، مما أدى إلى ازدياد إضافى فى درجات الحرارة ومزيد من ثانى أكسيد الكربون والمياه المتبخرة، ثم ارتفاع جديد فى الحرارة..إلخ. من الصعب أن تؤدى التغيرات المرحلية الطفيفة فى الطاقة الشمسية لمثل هذا ال«سيناريو» المخيف على الأرض، لكن يمكن أن يقودنا نحوه الاحتباس الحرارى، إذا استمر ووصل لنقطة معينة- نقطة اللا عودة- يحدث بعدها تعجيل معدل زيادة درجات الحرارة نتيجة تواطؤ عوامل مختلفة فتدعم بعضها البعض. وربما فى ذلك شبه لحالة المريض فى غرفة الإنعاش، حيث تنهار أعضاؤه واحداً تلو الآخر.. حتى يموت.