كان مطلوبا من محمد صلى الله عليه وسلم أن يدعو لعبادة الله الواحد الأحد، وربما يخطر على البال أنها مهمة سهلة يتقبلها قومه بسهولة كونها تُخاطب الفطرة وتدعو إلى مكارم الأخلاق، فمحمد لم يكن غريبا عن قومه، فهم يعرفونه منذ طفولته، ويعرفون آباءه وأجداده، وهو من قبيلة مهيبة تتمتع بحسن السمعة والعاطفة الدينية، ويعرفون خلقه وأمانته، وأهم شىء أنه لم يُعرف عنه كذب قط أو تطلع إلى الزعامة، أو قفزة إلى المجهول. ناهيك أنه يؤدى الدعوة بلا ثمن. لم يطلب مالا مقابل الهداية، أو قرابين يتقى بها غضب الآلهة، والأهم أنه لم ينصب نفسه وسيطا بين الله وعباده، أو يزعم معرفة الغيب. فقط طلب منهم أن يشهدوا بالتوحيد. هذه المهمة السهلة، المنطقية البديهية كانت فى حقيقة الأمر شبه مستحيلة. ذلك أنها كانت تتعارض فى الصميم مع كل ما ألفوه واستفادوا منه وبنوا عليه اقتصادهم وتجارتهم ومكانتهم المعنوية بين قبائل العرب. فقريش التى ترتزق من السيادة الدينية كان صعبا عليها قبول دين لا يوجد فيه وسيط بين العبد وربه. وقريش التى نشرت عبادة الأصنام كان صعبا أن تهجرها وتعبد إلها واحدا لا شريك له. وبدلا من آلهة مجسمة يحسونها ويمسكونها بأيديهم جاءهم محمد بإله مُنزه عن المشابهة والمقاربة والملامسة والمحاكاة. ليس كمثله شىء. عقيدة منبتة الصلة بواقع بلاد العرب حيث الأصنام والأوثان فى صحن الكعبة. كان مستحيلا على قوم مُشرّبين بعبادة الأسلاف وتوقير الأجداد أن يتركوا تقاليد اعتبروها من شرفهم، ويقبلوا بدين ينبذ العصبية فى بلاد العصبية ويؤمن بالمساواة بين الناس فى بلاد التفرقة الطبقية والعنصرية، وشعارات مثل (كلكم لآدم وآدم من تراب/ الناس متساوون كأسنان المشط لا فضل لعربى على أعجمى ولا لقرشى على حبشى إلا بالتقوى)، هذه الشعارات كانت تصيبهم بالجنون، كيف يتقدم العبد على سادة قريش بالأعمال الصالحة والسبق إلى الإسلام؟. هذا دونه الموت والطعن بالرماح. كان مستحيلا أن يقبلوا بفكرة المسؤولية الفردية (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)، حيث يصدها كل عرف وكل نظام فى الجزيرة العربية، حيث لم يكن هناك قانون غير الثأر وشريعة القبيلة. كان مذهلا أن تخبر قوما لا يؤمنون بحياة بعد الموت، ولا بحساب أو عقاب ثم تأتى لتقول لهم إنهم سيموتون كما ينامون ويبعثون كما يستيقظون. ثم يحاسبون على ما فعلوا فى الدنيا. لو جاءهم محمد زعيما قوميا أو داعيا إلى دولة عربية لكان سهلا عليهم أن يتبعوه، أما وقد جاءهم بتلك الدعوة العالمية التى لا تحابى جنسا عن جنس ولا قوما عن قوم ولا عشيرة عن عشيرة بل تعلن خضوع الكل لرب العالمين فهنا مكمن الصعوبة. ومن صعوبة المهمة اندلعت نار العداء فعمّت مكة بالحرائق. [email protected]