خمس ساعات قضتها فى غسل ملابس الجيران على يديها، أنهكت قواها وجعلتها ترقد على سريرها لا تدرك النهار من الليل، وفجأة استيقظت على طرقات قوية على باب غرفتها فأخذت وقتاً طويلاً تترنح بين جانبى غرفتها حتى استجمعت قواها ووصلت إلى الباب، وبمجرد أن فتحته وجدت أكواماً أخرى من الملابس فى انتظار الغسل. من يصدق أن نعيمة السعدنى من سكان حارة «الجزمجية» فى الدويقة التى تجاوزت الستين عاماً تقضى ما تبقى من عمرها أمام «طشت غسيل وباجور جاز وغسيل متسخ».. فتلك هى أدوات المهنة التى تعمل بها منذ سنوات طويلة، رغم أنها لا تتناسب مع سنها المتقدمة وجسدها النحيل. غسالة فى حارة ليس بها مياه قد يبدو عملاً مرهقاً لكن «نعيمة» اعتادت أن تبذل جهداً كبيراً لتحصل على أجر قليل، فأكوام الغسيل المتسخة تمثل بالنسبة لها رزقاً واسعاً تتمنى زيادته. تبدأ «نعيمة» عملها بعد أذان الفجر بتوصيل خرطوم من الحنفية العمومية فى حارة «مخلوف» إلى حارة «الجزمجية» حيث تسكن، ثم تبدأ فى «عد» قطع الغسيل لتقدر أجرتها، حيث تحصل فى القطعة الواحدة على 50 قرشاً، بعدها تجهز «الطشت» ومنظف الغسيل وتبدأ العمل الذى يستمر لساعات طويلة. كل يوم فى حياة «نعيمة» لا يختلف عن الآخر، فالغسل عمل يومى تمارسه منذ مطلع الفجر حتى الثانية عشرة ظهراً، ورغم التعب الشديد الذى تعانيه من الجلوس طويلاً أمام «الطشت» فإنها تشعر بالرضا وتقبل كل مليم تحصل عليه وتعتبره نعمة: «ضهرى انحنى من قعدة الطشت.. لكن ما باليد حيلة». «نعيمة» تنفق على زوجها القعيد وأبنائها من هذا العمل، ولذا فهى فى أشد الحاجة إليه ولا تفكر فى تركه أو امتهان عمل آخر يدر عليها دخلاً أكبر: «أنا خدت على كده، ومن الصعب ألاقى مهنة تانية تناسب سنى.. أنا عمرى ما خرجت من الحارة دى.. هعيش واشتغل وأموت فيها». يقولون إن الإنسان كلما كان بسيطاً كانت أحلامه أكبر، فالفقير يحلم بأن يصبح غنياً، والمريض يحلم بأن يصبح سليماً، لكن أحلام «نعيمة» فاقت كل التوقعات فهى لا تحلم بالتوقف عن العمل بحثاً عن الراحة ولا تحلم بشقة بدلاً من الغرفة الصغيرة التى تسكن فيها مع أولادها ولا تحلم بمعاش من الدولة يغنيها عن سؤال الآخرين، لكنها تحلم بادخار مبلغ لشراء غسالة لكى تعمل أكثر وتقلل الجهد المبذول وترحم يديها من التشققات التى تمنعها أحياناً من مواصلة عملها: «ربنا يقدرنى وأقدر أحوش وأجيب الغسالة.. هو ده حلمى الوحيد.. والباجور اللى بشغله عشان أغلى الهدوم البيضا كتم نفسى.. ومش بنام طول الليل من الألم اللى فى إيدى من كتر الغسيل.. مفيش حاجة بعيدة على ربنا».