يبدو أن العملية الانتخابية في الولاياتالمتحدة لا تتأثر بالديناميكيات السياسية الداخلية فحسب؛ بل أيضًا بالتدخل الخارجى، الذي كشفت عنه محاولات الاغتيال التي تعرض لها دونالد ترامب، والهجمات الإلكترونية التي استهدفت حملته الانتخابية، بيد أن الموقف يصبح أكثر تناقضًا إذا أخذنا في الحسبان أن إيران، التي تُتهم بتلك العمليات، تفتقر إلى القدرات الاستخباراتية التي فشلت في منع اغتيال زعيم حماس إسماعيل هنية في قلب طهران، وهو ما يستدعى التساؤل عن دلائل التدخل الإيرانى في الانتخابات الأمريكية 2024، ولماذا استهدف النظام الإيرانى ترامب منذ فوزه بانتخابات 2016؟، وما مدى قدرة النظام الإيرانى على تهديد الولاياتالمتحدة والتأثير في نتيجة الانتخابات الأمريكية؟، وكيف سيتشكل النظام الدولى خلال السنوات الأربع المقبلة؟. شواهد التدخل الإيرانى في الانتخابات الأمريكية منذ فوز ترامب في الدورة الانتخابية الأولى عام 2016، توترت العلاقات بين إيرانوالولاياتالمتحدة؛ بسبب سياسات ترامب الصارمة تجاه طهران، التي هدفت إلى عزلها عن شركائها التجاريين، ودفع اقتصادها إلى حافة الانهيار. وخوفًا من عودة ترامب مرة أخرى إلى البيت الأبيض، اخترق الحرس الثورى الإيرانى، من خلال مجموعة تُدعى «الفسفور»، حسابات كثير من ناشطى حملة ترامب الانتخابية، وأرسل رسائل إلكترونية لتهديد الناخبين من ترشيح ترامب، لصالح فوز بايدن، الذي وعد بإنهاء العقوبات الاقتصادية القاسية على إيران، وإعادة تفعيل الاتفاق النووى الذي ألغاه ترامب. واستكمالًا لهذا النهج، استهدفت إيران الانتخابات الأمريكية المزمع عقدها في نوفمبر 2024، حيث اتهمها ترامب بالوقوف خلف محاولتى الاغتيال اللتين تعرض لهما، فالأولى كانت خلال إلقائه كلمة خلال تجمع انتخابى في ولاية بنسلفانيا، والثانية كانت في ويست بالم بيتش بولاية فلوريدا، منتصف الشهر الجارى، محذرًا من تخطيط طهران لمحاولة ثالثة لاغتياله، وهو ما يصعد حدة العداء بين النظام الإيرانى وترامب. وبالنظر إلى الاستهداف السيبرانى في الانتخابات الحالية، كشفت «مايكروسوفت» نجاح جماعة قرصنة تديرها وحدة استخباراتية تابعة للحرس الثورى الإيرانى في اختراق البريد الإلكترونى للمستشار السياسى روجر ستون، أحد كبار المساعدين السابقين في حملة ترامب الانتخابية لعام 2020، وإرسال رسائل زائفة إلى حسابات الحملة الرئاسية وقواعد بياناتها. كما تعرضت حملة ترامب لقرصنة إلكترونية، سرّب- على إثرها- حساب (AOL) مجهول وثائق داخلية للحملة الانتخابية إلى وسائل الإعلام الأمريكية. وفى المقابل، لم تسلم حملة المرشحة الديمقراطية للانتخابات الرئاسية، كامالا هاريس، من الاستهداف، حيث تلقى ثلاثة من موظفى حملة بايدن وهاريس رسائل بريد إلكترونى في إطار عملية تصيد احتيالى؛ تهدف إلى الوصول إلى رسائل البريد الإلكترونى لأعضاء الحملة الرئاسية، فيما أعنت شركة ميتا، الشهر الماضى، أنها اكتشفت محاولة مماثلة ضد الحملتين السياسيتين على تطبيق المراسلة «واتساب»، واتهمت وكالات الاستخبارات الأمريكيةإيران بأنها وراء تلك الهجمات؛ بسبب تطابق تقنيات المتسللين مع تقنيات إحدى المجموعات ذات الصلة بالحرس الثورى. تكتيكات التدخل الإيرانى في الانتخابات الأمريكية تمتلك إيران شبكة واسعة من القراصنة يسيطر عليها الحرس الثورى، الذي يعد قوة قوية ونخبوية راسخة في كل قطاع من قطاعات البلاد، ومنها الفضاء الإلكترونى. كما يدير النظام الإيرانى أيضًا شبكة من الأفراد في الداخل، يستخدمون منصات التواصل الاجتماعى للترويج لوجهات نظر إيران، بأسماء مستعارة، وفى الخارج يستهدفون أعداء إيران من خلال التهديدات السيبرانية، ومحاولة اختراق الأجهزة الأمنية، خاصة في ظل الأوضاع الأمنية الدقيقة للبلاد، مثل الانقلابات العسكرية، والثورات، وحالات التمرد، والانتخابات. وفى هذا السياق، اتخذت الهجمات السيبرانية الإيرانية على حملتى ترامب وهاريس طريقتين أساسيتين؛ أولاهما: التصيد الاحتيالى، الذي يتضمن إرسال رسائل إلكترونية، أو رسائل زائفة؛ لخداع الضحايا، وإقناعهم بالكشف عن بياناتهم الشخصية، والأخرى هي: التصيد المباشر، وهو النهج الأكثر استهدافًا، ويكون باستخدام معلومات محددة لجعل الرسالة تبدو رسمية. على سبيل المثال، حاولت الجماعات الإيرانية، مثل Mint Sandstorm وPeach Sandstorm وAPT42 وStorm-2035، التسلل إلى حسابات البريد الإلكترونى لموظفى الحملتين، والوصول إلى معلومات حساسة عن الحملة، ونشر معلومات مضللة عن ترامب وهاريس. لعل الاستعراض السابق يقود إلى المقاصد وراء تلك الهجمات الإيرانية، التي جاءت في إطار جهود طهران لبث التوترات الداخلية، والتلاعب بالنظام السياسى الأمريكى، والتأثير في نتائج الانتخابات؛ ما يؤدى إلى تشويه سمعة النظام السياسى في الولاياتالمتحدة على نطاق عريض، وقد يبدو من التركيز الأكبر على استهداف حملة ترامب أن هدف إيران بالأساس هو تقويض حملة الرئيس السابق دونالد ترامب عن العودة إلى البيت الأبيض؛ لأن عودة ترامب إلى رئاسة الولاياتالمتحدةالأمريكية تمثل أكبر تهديد لإيران في ظل تطورات الحرب بينها وبين إسرائيل؛ الحليف الأهم للولايات المتحدة. هل تعيد الانتخابات الأمريكية تشكيل العلاقة بين إيرانوالولاياتالمتحدة؟ هذه الهجمات الإلكترونية لا تثير المخاوف بشأن العلاقات بين الولاياتالمتحدةوإيران فحسب؛ بل أيضًا بشأن تشكيل السياسة الدولية، والتأثير في استراتيجيات السياسة الخارجية للدول، حيث إن التطور المتزايد لحملات التضليل التي تعتمد على الذكاء الاصطناعى، ومواقع الأخبار الزائفة، يفرض تحديات على تدابير الأمن التقليدية، وهو ما جعل الدول تلجأ- على نحو متزايد- إلى الأدوات السيبرانية بدلًا من الصراع المباشر لتحقيق أهدافها، ويعد أقرب مثال على ذلك إيران، التي استثمرت في تعزيز قدراتها السيبرانية للتأثير في نتائج الانتخابات الأمريكية لصالحها، أو جمع معلومات استخباراتية حساسة تتعلق بالسياسة الخارجية أثناء الحملات. فمنذ تأسيس الجمهورية الإسلامية في عام 1979، كان التضليل والدعاية جزءًا أساسيًّا من هوية النظام الإيرانى، ومع تطور التكنولوجيا، تطورت أيضًا تكتيكات إيران وطموحاتها، حيث وصف المرشد الأعلى الإيرانى، على خامنئى، الفضاء الإلكترونى بأنه الحدود الجديدة للجهاد، واستنادًا إلى تلك المرجعية، نفذت إيران عمليات معلوماتية سرية ضد خصومها، وخاصة إسرائيل، والسعودية، والولاياتالمتحدة، غير أن السنوات الأخيرة جعلت جهود إيران الدعائية أكثر تنوعًا وطموحًا. بيد أن طهران دائمًا ما تنكر علاقاتها بحملات التضليل والمواقع الإلكترونية التي تستهدف الولاياتالمتحدة، أو محاولات الاغتيال التي استهدفت ترامب خلال الأشهر الماضية، وادعت أنها لا تحمل نية أو دافعًا إلى التدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، لكن لا يخفى على أحد عداء إيران مع الولاياتالمتحدة عامةً، وترامب خاصةً، فربما دفع انسحاب الولاياتالمتحدة من الاتفاق النووى، والعقوبات المفروضة على إيران، واغتيال الجنرال قاسم سليمانى، طهران إلى تبنى موقف انتقامى ضد ترامب. وانطلاقًا من كون الهجمات السيبرانية استهدفت حملة الرئيس السابق دونالد ترامب للعودة إلى البيت الأبيض، بالتوازى مع استهدافها الرئيس جو بايدن، ونائبة الرئيس كامالا هاريس؛ فإن هذا يعنى أن هدف إيران- هذه المرة- أوسع من التدخل في نتيجة الانتخابات الأمريكية لمنع مرشح لصالح مرشح آخر، كما كانت الحال في 2016 و2020؛ إذ أصبحت غايتها الآن تشويه سمعة النظام السياسى في الولاياتالمتحدة الذي روج له -عقودًا طويلة- على أنه رمز للديمقراطية في العالم. الخاتمة في ضوء المعطيات السابقة، يمكن القول إن فوز كامالا هاريس من شأنه أن يفيد إيران، ففوز مرشح ديمقراطى يمكن التعامل معه، خاصة في ظل مستجدات المنطقة التي لا تحتمل تصعيد ترامب وسياساته المتهورة ضد خصوم الولاياتالمتحدة، خاصة إيران والصين- قد يلقى بظلاله على تقويض الدعم الأمريكى لإسرائيل؛ ومن ثم الوصول لإنهاء العدوان على قطاع غزة، فضلًا عن توقف الحرب الشرسة بين إسرائيل والذراع الإيرانية في لبنان (حزب الله). والأمر الأكثر أهمية هو أن إيران انتخبت مؤخرًا رئيسًا معتدلًا؛ فقد خاض مسعود بزشكيان حملته الانتخابية على أساس تحسين العلاقات مع الغرب، بما في ذلك التعهد بإعادة التفاوض على اتفاق نووى لتخفيف العبء الذي تفرضه العقوبات على الاقتصاد الإيرانى. كما تحالف بزشكيان مع وزير الخارجية السابق جواد ظريف، أحد اللاعبين الرئيسيين في التوقيع الأول على خطة العمل الشاملة المشتركة عام 2015؛ ومن ثم يشكل فوز بزشكيان، واحتمال فوز هاريس، فرصة لتحسين علاقات الولاياتالمتحدةوإيران، وربما نجاة منطقة الشرق الأوسط من حرب شاملة وشيكة. * باحثة دكتوراة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة ينشر بالتعاون مع CAES مركز الدراسات العربية الأوراسية