صحيح أن جثمان حلمى التونى تغيَّب عنا يوم السبت الماضى، لكنه ترك لنا إرثًا فنيًا وإنسانيًا يخلد ذكراه. عزاء من كان له حظ الاقتراب منه، بشكل مباشر أو غير مباشر، أنه كان من تلك القلة من الناس الذين يتمتعون بريشة خلاقة للجمال، وحس إنسانى يحتوى العالم، وود شخصى ينزع عنك كل أسلحة الكتمان. انطلاقًا من هذه النقطة، هذا المقال ليس رثاء فى حلمى التونى، بل فرصة للتأمل فى أعماله الفنية، ووده الإنسانى، وبشكل أكثر عمومية، فى كيفية التعامل مع إشكالية الحزن والفقدان. كفنان، تحظى أعمال حلمى التونى بتفردها وسهولة التعرف عليها من أول نظرة، كما هو الحال بالنسبة لفنانين عالميين مثل سيزان، ومونيه، وديجا، وبول جوجان، وفان جوخ، وبيكاسو، وفنانين مصريين كبار مثل الجزار، ومحمود سعيد، ومختار. خطوطه بسيطة وانسيابية، وتركيبة لوحاته شديدة الاتزان، وألوانه تدعو إلى البهجة والإعجاب. موضوعاته تشع بمشاعر فياضة تجاه مصر والمصريين، بتراثهما الحضارى الممتد لآلاف السنين، وتعكس مواقف جادة ضد الظلم والظلاميين، وضد تقييد الحريات. رموزه فى التعبير عن كل هذه القيم تتصدرها المرأة، لكنه يستخدم رموزًا أخرى، مثل الهدهد، والسمكة، والسنبلة، والحصان. التونى كان حريصًا على أن تتسم معارضه بوحدة الموضوع، وآخر المعارض التى كان بصدد الانتهاء منها حمل فكرة الثنائية، أو المزاوجة بين مصر الفرعونية القديمة ومصر الحديثة. خلال رحلته الفنية الطويلة كان التونى مجددًا دائمًا، ولم يفته تقديم رسومات وحكايات بديعة للأطفال، بل وقد كان رائدًا فى هذا المضمار. كان الفن بالنسبة لحلمى التونى حياة كاملة، ولم يتوقف عن الرسم، حتى بعد أن اضطر إلى ملازمة فراشه فى الشهور الأخيرة، ولجأ إلى الرسم بلا ألوان (أبيض وأسود). كإنسان، ترجع معرفتى بحلمى التونى لفترة لا تزيد على عشر سنوات، لكنها كانت مليئة بالتواصل والتناغم والدفء. قصة التعارف بدأت عندما رغبت فى اقتناء إحدى لوحاته، إعجابًا به من جانبى، وتلبية لرغبة ابنى من جانب آخر. التقينا فى أحد المنتديات التى كان متحدثًا فيها، وأظن أنها كانت احتفالية لتكريم الكاتب الصحفى الكبير أحمد بهاء الدين. عندما طرحت عليه الأمر، دعانى للقاء على فنجان قهوة فى مرسمه فى الزمالك. بدأت رحلة التواصل، وتكررت الزيارات، وتعددت الحوارات، ولم تنقطع المكالمات التليفونية، فى الشأنين العام والخاص. زرته قبل وفاته بشهور قليلة، واقتنيت اثنين من آخر أعماله. حاولت تكرار الزيارة، لكنه اعتذر لأنه كان غير قادر على مغادرة الفراش. فى آخر مكالمة تليفونية، سمعت منه ما أحزننى كثيرًا، قال إنه لا يرغب فى الحياة فى ظل عدم قدرته على الرسم. وأظن أن هذا ما كان يعنيه «نيتشه» فى مقدمة كتابه «هكذا تكلم زرادشت» عندما تحدث عن «الرجل الأعلى»، أى ذلك الشخص الذى لا يكتفى فى الحياة بمجرد العيش بدون معنى، وليس الشخص الذى لا يعنيه غير رغبته فى الراحة بأى شكل من الأشكال، وبشكل لا يتجاوز نفسه. «الرجل الأعلى» هو ذلك الشخص القادر على الخلق والإبداع لتعزيز الإنسانية، وتنتهى حياته عندما لا يكون قادرًا على ذلك، وهذا ما شعر به التونى فى الشهور الأخيرة من حياته. ماذا عن كيفية التعامل مع فكرة الحزن الناتج عن فقدان شخص عزيز علينا؟ ليس لدىَّ الكثير لإضافته فيما يتعلق بتوصيف ما نشعر به عندما نفقد أحد أقربائنا أو أصدقائنا الأعزاء، فمن المؤكد أننا جميعًا مررنا بتجربة، أو بتجارب، من هذا النوع، وأننا شعرنا حينئذ بأن جزءًا منا قد تم انتزاعه، وهذا ما شعرت به عندما توفى حلمى التونى. النقطة التى قد تكون جديرة بالإضافة هى أن الشعور بالفقدان من الممكن أن يكون له بعض الجوانب الإيجابية، خاصة إذا ما تم استثمار التجربة لتعميق فهمنا لأنفسنا، وإثراء علاقاتنا مع الآخرين. هذه الفكرة هى ما حاول مايكل تشولبى استكشافه فى كتابه «الحزن: دليل فلسفى»، الصادر عن مطبعة جامعة برينستون (2021)، وفكرته الأساسية أن الحزن، رغم الآلام المصاحبة له، يمكن أن يكون فرصة كى نفهم أنفسنا بشكل أكثر ثراء، وترجمة هذا الفهم فى بناء علاقات أكثر إنسانية مع الآخرين. التمعن فى حياة من نفقدهم، وفى طبيعة العلاقة التى ربطتنا بهم، كلاهما يمكن أن يساعدانا على تجديد هويتنا، وتعميق فهمنا لأنفسنا، وتحسين علاقاتنا بالآخرين. بالنسبة لتشولبى، مفتاح فض الاشتباك بين الاضطراب والربكة المصاحبين للحزن والاستفادة من التجربة بشكل إيجابى يكمن فى قدرتنا البشرية المميزة على التكيف بعقلانية مع تطور العلاقات التى نعتمد عليها. أيًا كان الأمر، ليس هناك شك فى أن حلمى التونى تغيَّب عنا جسدًا، لكنه عاش حياة حافلة، وترك لنا ما نحتفى به من أعمال فنية وسلوك إنسانى بهما الكثير من الأصالة والجمال والصدق مع النفس. بهذا المعنى، سوف يظل مشروع حلمى التونى نابضًا فى الذاكرة، وسوف يظل عشقه للفن والجمال وتقديره للقيم الإنسانية نبراسًا لأصدقائه ومحبيه.