تتلاشى معالم المدن السودانية تحت وطأة الحرب، ويحل مكانها خراب ودمار. ملايين المدنيين يعيشون كابوسًا لا ينتهى، فبعد أن كانوا يحلمون بمستقبل أفضل، وجدوا أنفسهم نازحين فى الصحراء، يبحثون عن لقمة عيش وماء نظيف.. أطفال يفتقدون التعليم، ونساء يعانين من العنف، وكبار سن يواجهون مصيرًا مجهولًا. كل يوم، تصلنا أنباء عن مجازر جديدة وعن انتهاكات لحقوق الإنسان، إذ تحول السودان إلى جحيم يعيش فيه الملايين تحت وطأة الحرب، ومع اشتداد المعارك، تفاقمت الأزمة الإنسانية بشكل مروع، وتشهد البلاد واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية فى العالم، حيث يقدر عدد النازحين فى السودان الآن بنحو 10.7 مليون شخص (2.1 مليون أسرة)، وفقا لأحدث إحصائيات الأممالمتحدة. ومما يزيد من هذه الأزمة نقص الغذاء والدواء، وانتشار الأمراض، وتدمير البنية التحتية، ما يهدد حياة الملايين وجعل 25.6 مليون شخص– أى أكثر من نصف سكان السودان– يعانون من الجوع الحاد. وحتى 1 أغسطس الجارى بلغ تمويل النداء الإنسانى للسودان الذى يسعى إلى الحصول على 2.7 مليار دولار نسبة 49٪ فقط. مما يترك فجوات كبيرة فى التمويل بما فى ذلك للمنظمات المحلية التى تتصدر جهود الاستجابة. وقالت الأممالمتحدة «لمنع حدوث مجاعة واسعة النطاق يجب على الجهات المانحة زيادة دعمها المالى بشكل عاجل مع استخدام الوسائل الدبلوماسية للضغط من أجل فتح المجال أمام وصول المساعدات الإنسانية، وإن لم يحدث ذلك فسنشهد أوضاعًا أكثر كارثية». حمّل خبراء ومتخصصون فى الشأن السودانى طرفى النزاع- قوات الدعم السريع والجيش السودانى- المسؤولية عن تردى الأوضاع الإنسانية فى البلاد. وقال المتحدث باسم الجبهة الثورية فى السودان، محمد زكريا، فيما يتعلق بمفاوضات جنيف، وعدم مشاركة الجيش بها إنه من بين الأسباب التى دفعت الحكومة السودانية لعدم المشاركة فى هذه المفاوضات أن الدعوة أتت باسم القوات المسلحة، مشيرًا إلى أن الحكومة السودانية ترى نفسها أنها معترف بها دوليًّا وبالتالى يجب أن توجه الدعوة إلى الحكومة السودانية. وأضاف زكريا ل«المصرى اليوم» أنه من أسباب الرفض أن الوساطة أجرت تغييرًا فى هيكل الوساطة دون الرجوع للحكومة السودانية، فضلًا عن التغيير فى أجندة المفاوضات، حيث أشار فى هذا السياق إلى أن الحكومة السودانية ترى أن التفاوض يجب أن يتمركز حول بحث آليات مراقبة وتنفيذ اتفاق جدة لوقف الأعمال العدائية لأغراض إنسانية. وأكد على أن انعقاد مفاوضات جنيف بدون الحكومة السودانية يجعل من هذه الاجتماعات مباحثات، حيث اعتبر أنه لا يمكن وصفها بأنها مفاوضات لعدم وجود الأطراف الرئيسية فى هذه الاجتماعات، وبالتالى فهى مباحثات ذات صلة بالشأن السودانى. وفيما يتعلق باستجابة الجيش لدعوة القاهرة، قال إنها جاءت لأن الدعوة ملتزمة ببحث إعلان جدة، وبأن الأطراف المشاركة فيها تقتصر على الوساطة التى رعت إعلان جدة المتمثلة فى الولاياتالمتحدة والمملكة السعودية. وأوضح إن المأمول من هذه الاجتماعات أن تبحث بشكل عميق آليات تنفيذ ما تم التوافق عليه فى جدة، مؤكدًا أن المباحثات المنفصلة التى تجرى بين طرفى الصراع لا يمكن اعتبارها جولة تفاوض بنافذتين سواء فى القاهرة أو جنيف. وتابع أن ما يجرى فى القاهرة هو خطوة منفصلة ومستقلة كليًّا عما يجرى فى جنيف، ستحرص فيه الحكومة السودانية على توضيح رؤيتها حول آليات تنفيذ ما تم التوافق عليه فى إعلان جدة الموقع عليه فى مايو 2023. وفيما يتعلق بالأزمة الإنسانية فى البلاد، قال زكريا إن هناك تضخيمًا لها من قبل بعض الدوائر العالمية والطرق عليها بشكل مكثف، بما لا يعكس أو يتسق مع الواقع الفعلى الماثل. وأوضح أن هناك مناطق محددة معزولة تعانى من نقص فى الغذاء والدواء، مرجعًا السبب فى هذا الأمر إلى قوات الدعم السريع بسبب تطويقها هذه المناطق ومحاصرتها ما جعلها أشبه بالجزر المعزولة. وأضاف أن الدعم السريع لم تكتف بذلك بل قامت بمهاجمة القوافل التجارية وقوافل الإغاثة، مما ساهم فى تفاقم الأزمة الإنسانية، حيث أصبح هناك شح فى الغذاء والدواء. وأشار إلى أن الحل يكمن فى إجبار الدعم السريع على أن تفك حصارها الذى وصفه ب«الجائر» تجاه هذه المناطق المأزومة المأهولة بالمدنيين، والتنديد بانتهاكاتها وهجماتها الموجهة ضد قوافل الإغاثة والتجارة. ولفت إلى أن الإصرار على إيصال الإغاثة عبر معابر ومنافذ محددة أمر أيضًا يثير علامة الدهشة ويطرح أسئلة عديدة حول جدية ومصداقية القوى والمنظمات الدولية فى دعم الشعب السودانى، منوهًا إلى وجود العديد من المنافذ والمعابر المفتوحة، منها- على سبيل المثال- منفذ الدبة، إضافة لوجود معابر فى بورسودان، حيث يمكن أن تمتد الإغاثة عبرها إلى أجزاء واسعة من ولايات السودان. وأردف أنه منذ تفجر الحرب فى إبريل حتى تاريخه لم تقدم أى من الإغاثات من الدول الغربية والأوروبية إلى هذه المنافذ، سوى من مصر والمملكة العربية السعودية وقطر والكويت والصين وتركيا وسلطنة عمان ودول أخرى فى الشرق الأوسط. وتابع أن الحكومة السودانية اتخذت قرارًا مؤخرًا بالسماح بإدخال الإغاثة من معابر مختلفة لاسيما معبر أدرى القريب من منطقة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، معتبرًا أنها بادرة تدل على اهتمام وحرص الحكومة السودانية على رفع المعاناة تجاه الشعب السودانى فى مختلف المناطق حتى تلك التى لا تقع تحت سيطرتها. من جانبها، أشارت الدكتورة أمانى الطويل، خبيرة الشؤون الإفريقية بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، إلى عدم وضوح الموقف فيما يتعلق بالمفاوضات الجارية لحلحلة الأزمة السودانية. وأضافت ل«المصرى اليوم» أنه كانت هناك مسارات غير محددة للمسار الإجرائى تم الإخلال بها، لافتة إلى أن الأطراف المسببة لهذا الخلل غير معروفة، مشيرة إلى أن الحكومة تقول إن الولاياتالمتحدةالأمريكية هى المسؤولة. ولفتت إلى عدم تواجد تصريحات للمبعوث الأمريكى فيما يتعلق بماذا حدث ولماذا لم يحضر الوفد السودانى. وتابعت أن الوسطاء أفصحوا عن استعدادهم ومرونة كاملة للتفاعل بكافة الأشكال والآليات مع طرفى الصراع، معقبة أن نجاح هذه المعادلة سيبقى مرهونًا بالجيش ومدى استعداده فى أن يتفاعل إيجابيًا مع المجهودات الجارية فى جنيف، منوهة إلى أنه فى حال تعاطيه بشكل إيجابى فستتم المناقشات حول نقاط الاتفاق وكيفية تنفيذ اتفاق جدة. ولفتت إلى أنه فى حال عدم التعاطى بشكل إيجابى من جانب الجيش السودانى بأى طريقة وليس بالضرورة أن يكون بالوجود المباشر، سيكون هناك سيناريو متمثل فى تصعيد الأعمال العسكرية. وعن تحدث وزير الخارجية الأمريكى، أنتونى بلينكن، خلال جولته الأخيرة فى الشرق الأوسط والتى كانت منصبة على مفاوضات وقف إطلاق النار فى غزة، عن الأزمة السودانية، وبأن «واشنطن» تولى اهتمامًا لها، قالت «الطويل» إنه حتى الوقت الراهن غير معروف هل توجد مصلحة أمريكية مباشرة لتقديم بعض التحرك الإيجابى فى الملف السودانى على مستوى وقف إطلاق النار. وأضافت أنه بالرغم من الاهتمام والجهد الأمريكى الذى بُذل خلال الفترة الماضية، إلا أن هناك إحساسًا لدى الأطراف السودانية بأن الاهتمام الأمريكى يرجع إلى الانتخابات وبالتالى فإنهم يستخدمون هذه اللحظة لصالحهم. وفيما يتعلق بالأزمة الإنسانية، قالت إن هناك نوعين من التقصير، الأول بسبب التمويل، موضحة أن هناك قصورًا دوليًا فى هذا الأمر، حيث إن الحزم التمويلية التى وعدت بها السودان لم يتم الوفاء بها. ونوهت إلى أن العامل الثانى المسؤول عنه هو الأعمال العسكرية والعدائية على الأراضى السودانية، حيث توجد صعوبة فى ضوء الأعمال العسكرية، وسيطرة كل طرف على مناطقه. وأشارت إلى أن العامل الإنسانى غير مؤثر سواء المرتبط بالنازحين الداخليين أو اللاجئين خارج البلاد على طرفى الصراع فى اتخاذ خطوات لوقف هذه الحرب. من جانبه قال الدكتور عامر حسن، الخبير العسكرى، إن السودان يمر بمنعطف تاريخى وجودى بسبب الحرب الدائرة منذ إبريل 2023 وكانت فى بدايتها تظهر كتمرد لقوات الدعم السريع على الدولة السودانية لكن سرعان ما تكشفت أبعاد المخطط الخارجى الذى أراد تغيير معادلة السلطة والسكان فى السودان خدمة لمخطط الشرق الأوسط الكبير وفق المنظور الأمريكى الغربى المنحاز لوجود إسرائيل فى المنطقة. وأكد حسن ل«المصرى اليوم» على أن الإرادة لإلحاق السودان بالدول التى تم تفتيتها لا تزال جارية كما كان الحال فى الصومال وأفغانستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن. وقال عن الأزمة الإنسانية، إن للحرب تداعيات إنسانية بالغة التعقيد فى مظهرى النزوح لأكثر من 11 مليون سودانى ولجوء ما يقارب المليون ونصف المليون إنسان خارج السودان. وأضاف فى هذا السياق، أن التمرد- والقوى الدولية من خلفه لتسلم السلطة بضربة مفاجئة صبيحة الحرب- فشل بصمود الجيش السودانى؛ ولذلك عمدت الخطة لشل الدولة السودانية وإشاعة حالة الحرب فى السودان باستهداف كل مرافق الدولة الاقتصادية والمعلوماتية والخدمية وتوجيه نيران الحرب لصدور المواطنين بنهب ما فى أيديهم والولوغ فى دمائهم وأعراضهم بمنهجية لا تشبه كل الحروب التى عاشها السودان فى تاريخه الحديث. وأشار إلى أنه من شأن هذه الأحداث أن تؤثر بشكل مباشر على الحالة الغذائية والصحية، حيث تعطلت عمليات الإنتاج بالكلية وتوقفت المرافق الصحية بنسبة تفوق ال80٪ مما خلق مشاكل صحية نتيجة لتعطل كل مشاريع الصحة الأولية والوقائية المرتبطة بفصل الخريف الماطر فى صيف السودان، فظهرت الإسهالات المائية التى شخص عدد منها كأمراض كوليرا. واعتبر أنه بالرغم من محدودية الحالات المرصودة إلا أنها جرس إنذار عاجل لتدارك الأوضاع الصحية التى تواجه مشكلتى التمويل ومخاطر النزاع على الطواقم الطبية التى تستهدفها القوة المتمردة للدعم السريع بشكل منهجى مزعج. وفيما يتعلق بالدور الدولى فى هذه الازمة، قال حسن إنه من المشكلات الكبيرة وبرغم حديث المجتمع الدولى عن الحالة الإنسانية فى السودان إلا أن حجم المساعدات لا يزال دون القدرة على توفير أساسيات التدخل السريع، إضافة لإهدار هذه المساعدات بسبب المناورة الأمريكية بضرورة فتح منافذ دولية عبر تشاد وإفريقيا الوسطى، ما يعنى إهدار ما تم توفيره. وأوضح أن الجهود الحكومية ماضية والوعى الشعبى للتعامل مع مثل هذه الوبائيات سيمكن السودان من عبور المخاطر إذا ما توفر تمويل خارجى معقول وتوجه إرادة الخارج لحل الأزمة وليس إدارتها فى إطار الضغوط التى تمارس على الحكومة والجيش السودانى. وعن الدور المصرى للأزمة، قال عامر حسن إن لمصر انشغالات بالأمن القومى نتيجة الصراع فى السودان وتعرف المهدد الوجودى للدولة السودانية وتحركت بناء على ذلك وعقدت مؤتمر جوار السودان وحاولت جمع القوى السياسية للوصول لتوافق يساعد فى إنهاء الحرب لكن جهودها هذه دون حد الكفاية الذى يضمن إيقاف الحرب وعدم محاصرة مصر بدولة حرب أخرى كما هو الحال فى ليبيا، ما يخدم المخطط الإسرائيلى لحصارها ووضعها تحت الضغط المستمر. واعتبرأن جهودها فى استقبال اللاجئين كان عظيمًا وعلى قدر التحدى لكن تدخلها فى الإغاثة وإنعاش الخدمات الصحية داخل السودان لا يزال ضعيفًا إذا ما قرئت الصورة كاملة بتهديد الوبائيات لمصر ومنتجات السودان التى تعتمد عليها مصر فى غذائها بشكل أساسى وبخاصة فى قطاع اللحوم والثروة الحيوانية.