تثير خطة «إعادة هيكلة المرحلة الثانوية» التى طرحها وزير التعليم جدلًا واسعًا حول ما قد يكون لها من ميزات ومثالب فى تحقيق إصلاح حقيقى لمرحلة حاسمة فى التعليم يصاب أغلب من يمر بها بنوع من العصاب السيكولوجى لارتباطها الشديد بمستقبله المهنى بعد تخرجه فى الجامعة. فكم من تمنى أن يكون طبيبًا أو مهندسًا ولم يحالفه الحظ فى الحصول على النسبة المئوية التى يحددها مكتب التنسيق لكلية أحلامه فيضطر مكرهًا إلى اختيار كليات أخرى لم يكن ليتوقع أن تسوقه الأقدار إليها. فنظام التنسيق فى مصر أشبه بربات الأقدار (المويرات) فى الأساطير الإغريقية اللاتى يرسمن ويحددن مصير الإنسان طيلة معاشه. قبل تناول الخطة التى قيل بشأنها إنها كانت محل دراسة ونقاش بين خبراء التعليم قبل إعلانها وإنها حازت رضاءهم ودعمهم. يجدر الإشارة إلى أن إشكالية الثانوية العامة ترتبط فى جوهرها بقضايا محورية هامة ذات طابع مركب: اقتصادى واجتماعى وثقافى وتربوى. لا شك فى أن البرنامج الدراسى للمرحلة الثانوية هو برنامج مكتظ بحشو يشكل عبئً على الطلاب فى اكتناز معلومات يطالبون بتذكرها أثناء أدائهم الامتحانات. ولا شك أيضًا فى أن هذا الحشو يدفع ثمنه الطالب فيما يبذله من جهد وعناء فى التركيز والفهم، الأمر الذى يضطره إلى اللجوء إلى الدروس الخصوصية لاسيتضاح ما غمض عليه فهمه أثناء الفصل الدراسى وأثناء مراجعته للدرس فى منزله. ولا يخفى على أحد ما تتكبده الأسر المصرية من نفقات هائلة تقتطعها من دخولها المتواضعة لسداد ثمن الدروس الخصوصية آملة أن يلتحق أبناؤها بكليات القمة لكى تضمن لهم مستقبلًا لائقًا. بيد أن السؤال الأساسى يدور حول صحة المسلمات والمعايير التى ترتكز عليها خطة إصلاح المرحلة الثانوية فى تكييفها لإشكاليتها الكأداء وسبل إصلاحها؟ المسلمة الأولى للخطة تقول إن عبء الثانوية العامة وما ينطوى عليه برنامجها الدراسى من حشو يرجع إلى وجود بعض المواد التى لا أهمية كبيرة لها فى الواقع العملى مثل اللغة الأجنبية الثانية والجغرافيا والفلسفة. والمسلمة الثانية تقول إن مشكلة التعليم الثانوى ترتد إلى أن الغالبية الغالبة من خريجيه اختاروا الالتحاق بكليات نظرية لا تؤهلهم لإيجاد وظيفة فى سوق العمل وسد حاجة البلاد الماسة إلى الكفاءات العلمية والتكنولوجية الدقيقة الضرورية لتحقيق التنمية والتقدم وهى كفاءات عملية لا توفرها إلا الكليات العلمية وتفتقدها الكليات النظرية. والمسلمة الثالثة الضمنية تقول إن معايير تقييم المستوى العلمى وذكاء الطالب عبر امتحانات الثانوية هى معايير علمية تربوية سليمة ستظل دون تغيير فيها. أما المسلمة الرابعة فتقول إن خطة الإصلاح تساير أنظمة التعليم المتطور فى الدول المتقدمة وتلتزم بنفس معاييرها. لو أننا نظرنا إلى مسلمة الاكتفاء بلغة أجنبية واحدة نجد أن أنظمة التعليم الأوروبية الحديثة تتجه كلها على العكس نحو إضافة المزيد من اللغات الأجنبية فى البرامج الدراسية، إذ يلتزم الطالب بتعلم لغتين حيتين على الأقل لكى ينفتح على العالم وتتسع له الفرص للعمل بها خارج بلده. كما تعمم تدريس الفلسفة فى الأقسام العلمية كافة اتساقًا مع مبدأ وحدة المعرفة وترسيخًا للتفكير المنهجى لدى الطلاب. وفيما يتعلق بالجغرافيا فهى تحتل موقعًا حيويًا فى برامجها الدراسية لارتباطها الوثيق بالعلوم الاقتصادية والجيوسياسية وعلوم البيئة والمناخ. أما المسلمة الثانية التى ترد التحاق الطالب بالكلية النظرية لاختياره فلا أساس لها من الواقع إذ يحدد مصير الطالب مكتب التنسيق وفقًا لتقديراته فى امتحان الثانوية حسب قدرته على تخزين المعلومات وتذكرها أثناء الامتحان. وفى البلاد الأوروبية إذا أراد خريج الجامعة ممارسة مهنة معينة بخلاف الطب والهندسة يتعين عليه الالتحاق بمعهد يدربه على ممارسة هذه المهنة حتى ولو كانت بعيدة عن تخصصه الجامعى. يضاف إلى ذلك أن مصر تعج بخريجين لكليات علمية لا يجدون فى سوق العمل وظائف تناسب تخصصاتهم فيضطرون إلى ممارسة مهن منقطعة الصلة بها. وأخيرًا وليس بآخر فإن خطة التعليم بعد أن ضمت العلوم الطبيعية فى حزمة واحدة اتساقًا مع مبدأ وحدة المعرفة إذ بها تسلخ رأس المعرفة عن جسدها.