رسائل «الهُدهُد» إلى الفئران

أكثر مَن يخشى المصيدة هو «الفأر» لأنه إذا وقع فيها فسيُحرَم من الحرية والحركة والتفكير والمأكل والمشرب وبراح المكان، إذا وقع فيها فهو مسجون حتى الموت، ومرهون بإرادة الزمن، الذى سيستحيل أن يعود للوراء.
وإسرائيل الآن على كافة الأصعدة والخيارات والمستويات والأحداث والمواقف، تمامًا مثل الفأر، قد وقعت فى المصيدة، وباتت فى عزلة إجبارية ضيّقت عليها الخناق تدريجيًّا إيذانًا برحلة شاقة قد تقودها إلى نهاية لا تتوقعها ولا تتمناها، خاصة إبان عملية «طوفان الأقصى التى قامت بها حماس فى السابع من أكتوبر عام 2023»، والتى- بسببها- خاضت إسرائيل حربًا لا هى اختارت بدايتها ولا هى قادرة على إنهائها بعد أكثر من «9» أشهر من اندلاعها، وغرق جيشها فى وحل غزة بحجة القضاء على حماس وتفكيك بنيتها العسكرية وتحرير الرهائن الإسرائيليين.
وإلى اليوم لم يهدم حماس ولم يفكك بنيتها العسكرية ولم يستعِد الرهائن ولم يحمِ سكان إسرائيل فى الشمال والجنوب من هجمات حزب الله والجبهات المساندة لغزة فى سوريا ولبنان والعراق واليمن، الأخطر من كل ذلك تفكك الجبهة الداخلية الإسرائيلية التى توزعت مواقفها بين «نتنياهو واليمين المتطرف الداعم له»، وبين المعارضة، وعلى رأسها «يائير لابيد وبنى جانتس وأيزن كوت وغيرهم»، بين الداعين إلى استمرار الحرب على غزة مهما كانت التكلفة، والساعين إلى إجراء صفقة تبادل مع حماس بإشراف أمريكى مصرى قطرى من أجل إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين أحياءً، بين مَن ينادون ببقاء
نتنياهو وحكومته فى السلطة ومَن يتظاهرون للدعوة إلى انتخابات مبكرة.
إن إسرائيل الآن تعيش واحدة من كبرى الأزمات والكوارث وأصعب الفترات فى تاريخها، فائتلافها الحاكم يتداعى ويتمزق، ومشاكلها السياسية والاقتصادية والعسكرية تتراكم وتتفاقم، ومواردها وإمكانياتها تُستَنزَف، ومكانتها وهيبتها إقليميًّا ودوليًّا تهتز، وقدرتها على الردع- فى ظل الخلاف الإسرائيلى الأمريكى- تتلاشى وتتآكل، وبالتالى، فهى أعجز من أن تواجه وأضعف من أن تفتح على نفسها جبهة جديدة مع حزب الله فى لبنان، وما تهديداتها المتكررة للحزب واحتمال شنها حربًا على لبنان ستعيدها إلى العصر الحجرى إلا محض هلوسة وتخريف، خاصة أن جيشها، الذى فاقت خسائره العسكرية والبشرية كل حد بسبب المواجهة مع المقاومة الفلسطينية محدودة الإمكانيات،
لا أظنه قادرًا إذا ما تورط فى حرب مع حزب الله على تحقيق أى انتصار، خاصة أن هذا الحزب قد حرص على بناء قوته منذ حرب يونيو «2006» من خلال الحصول على أحدث التقنيات والتكنولوجيا العسكرية والمُعَدات والعتاد وأجهزة التنصت، وانطلاقًا من هذا البُعد العسكرى الكبير والمهم، لم يتردد السيد «حسن نصرالله»، الأمين العام لحزب الله، فى أن يعلن صراحة استعداد المقاومة وجهوزيتها لأى مغامرة عسكرية إسرائيلية بشن حرب على لبنان، حيث قال: «إذا ما فرضت إسرائيل الحرب على لبنان، فإن مقاومة حزب الله ستقاتل برًّا وبحرًا وجوًّا، دون قيود أو ضوابط أو أسقف».
وأمين الحزب بتهديده هذا لا يُطلق تصريحات جوفاء فى الهواء، لكنه واثق فى قوة الحزب وقدرته على المقاومة، وامتلاكه أساليب جديدة لا قِبَل لإسرائيل بالتعامل مع مثلها، ولعل الفيديو الذى أذاعه إعلام حزب الله منذ أيام قليلة يكون شاهدًا على أن قواعد اللعبة تغيرت، وأن ما خسرته إسرائيل فى غزة سوف يتضاعف إذا ما دخلت الأخيرة فى مواجهة مفتوحة مع حزب الله.
تضمن الفيديو صورًا لمواقع مهمة وحساسة فى شمال إسرائيل على عمق أكثر من «30 كيلومترًا» عن طريق طائرة مسيرة إيرانية اسمها «الهُدهُد»، وقد تم تصنيعها سنة «2015»، وهى قادرة على الطيران على مستوى منخفض يصعب على أجهزة الرادار الإسرائيلية كشفها فيه، وليس لها صوت تقريبًا، وقد عرض فيديو الهُدهُد صورًا لمنطقة الصناعات العسكرية بما تحتويه من مصانع ومخازن وحقول تجارب عسكرية وأهم منظومات الدفاع الجوى الإسرائيلى كالقبة الحديدية ومقلاع داوود، ثم صورًا لميناء حيفا المدنى، وهو الأكبر فى إسرائيل كلها.
والموجود فيه أهم الأرصفة وأكبرها، ثم التقطت «الهُدهُد» صورًا للقاعدة البحرية الرئيسية للجيش الإسرائيلى، بما فيها من مبانى القيادة والعتاد البحرى العسكرى، بالإضافة إلى صور لمطار حيفا وحقل خزان نفط ومواد بتروكيميائية، ومحطة كهرباء حيفا، كما التقطت «الهُدهُد» صورًا لمنطقة «الكريوت»، وهى منطقة سكنية موجودة بشمال حيفا، وقد أذاع إعلام حزب الله ما نشرته الطائرة المُسيرة «الهُدهُد» على أنه الحلقة الأولى.
وهو ما يعنى أن هناك الكثير الذى لا يزال غير مُعلَن عنه، وأن هناك نقلة نوعية من جانب حزب الله فى جهة الرصد والاستطلاع وتحديد الأهداف، وأن هناك رسائل أرادت أن تبعثها «الهدهد» إلى فئران إسرائيل، لكن تُرى، ما هى تلك الرسائل؟، ولماذا فى هذا التوقيت بالذات؟.
هذا ما سأجيب عنه فى المقال القادم.