لم يترك لها من رائحته سوى ملابسه ومن ملامحه إلا بضع صور لتتذكر مقتل نجلها «محمد» بالرصاص وسط الزراعات في ظروف غامضة، بعد أن انطلق ب«التوك توك» الذي يقوده دون اكتراثه لنصيحتها: «بلاش يا حبيبى الشغلانة دى». أم الطالب بالصف الثانى الثانوى الزراعى، على سريره تنام تشم رائحته تتصور وجوده إلى جوارها فلا تصدق رحيله في غمضة عين تتذكر تفاصيل الواقعة: «خرج وقت العصارى من بيتنا بقرية المنية في القليوبية، وقلت له: بلاش يا حبيبى تسوق (التوك توك) بسبب الجرائم اللى بنسمع عنها»، فرد: «عمر الشقى بقى»، وكان خروجه بملابسه الجديدة وحذائه الذي لم يَخْطُ به على الأرض من قبل. حتى منتصف الليل، تنتظر الأم مجىء ابنها، لكنه لم يأتِ، ولا وسيلة اتصال به «تليفونه كان بايظ مصلحوش، لأن ظروفنا على قدنا»، وتحكى: «جوزى نزل يدوّر على ابننا، كل ما يسأل حد عنه يقول له: ما شفتوش، وبحدسها أخبرت الزوج «الواد حصل له حاجة، أنا حاسة إنه اتقتل»، وأنا حذرته: «بلاش.. بلاش تخرج ب(التوك توك) ماسمعش كلامى». الأب توجه إلى مركز الشرطة ليحرر محضرًا بتغيب ابنه والخوف يملأ قلبه من المجهول، وحين قال له ضابط النوبتجية: «مفيش بيانات باسم وأوصاف نجلك»، كاد يتنفس الصُعداء، عن ذلك حكت أم الشاب صاحب ال18: «جوزى راح لهم برجله، وميعرفش إنهم لقوا جثة الواد دون أوراق ثبوتية، وفى أعقاب ذلك اصطحبه الضابط إلى مستشفى الخانكة، وفتح له ثلاجة الموتى، وجوزى يقول له: تلاجة إيه، وليه؟، وكان فاكره جايبه هنا عشان ابننا عامل حادثة ومخبوط، ومن صدمة جوزى شاف ابننا وقال: لا مش هو، ولما عرفه من هدومه، فضل يصرخ جامد، سمعته في التليفون بيحكى لقرايبنا.. سقطت مكانى على الأرض، مُردِّدة: مش قلت لكم ابنى مقتول!». أم سائق ال«توك توك» تتصوره عاش لحظات رعب: «اللى قتله عايزه يشوف اللى ابنى شافه»، تتمتم بها وتستطرد: «طالبت أهلى يودونى أشوف ابنى في التلاجة، خافوا عليا لأنى مريضة قلب، قلت لهم: ولدى بينادى عليَّا، ومن شهر رمضان الكريم الماضى وقلبى واجعنى، وبحس بوجع فيه على ابنى، وكنت بقول لهم كده يقولى: مفيش حاجة، وولدى كان ابن موت من يومه». تندهش الأم للعثور على جثة ابنها وسط الزراعات بعزبة الخلايلة: «مش عارفة ابنى راح هناك إزاى؟، ده لو شاف خناقة بيمشى من شارع تانى، وأصحابه كانوا بيقولولى: لو حد غلط فيه إحنا اللى بنتخانق له»، وتقول: «لما دخلت على ابنى أثناء تغسيله قبل دفنه لأودعه قبلت إيديه ورجليه، وجسمه كله كان سليم ماعدا الجزء الشمال من الوجه كان مضروب فيه بالخرطوش»، باكيةً: «اللى ضربه كان قاصده بضربة واحدة لينهى حياته، ولما قتله ساب (التوك توك) جنب جثته». وترثى الأم المكلومة حالها: «ابنى أول فرحتى كسر لى ضهرى، كان بيمشى معايا في كل مشاويرى لأنى لا أقرأ ولا أكتب، كان بيودينى المستشفى مين اللى هيروح معايا ومين اللى هيمشى معايا؟!»، وتصمت قليلًا وتعاود كلماتها الحزينة: «كنت بقول له أخرج زى الشباب وروح وتعالى، وطلبت منه يتصور كروت في الاستديو في العيد استجاب وقالِّى: خدى صورى وهنشرها على النت زى ما طلبتى عشان أكون زى كل أصحابى، بس دلوقتى صوره اتنشرت بعدما راح للى خلقه!». أمسكت الأم بملابس العيد خاصته، وقالت ملتاعة: «ما اتهنيتش بيهم يا ضنايا، لبسة واحدة اللى لبستها للطقم الجديد»، وتجفف دمعها الغزير: «عازوة حقه، ده حق عمرى كله، كان عكازى وسندى وضهرى، ده راح في غمضة عين، اللى عمل له كده الإعدام له هيبقى رحمة». وتنظر إلى صوره الابن على سريره كأنها تتحدث إليه وتلومه: «يا ابنى مواعيد دوايا انت عارفها وأنا تائهة، هي إمتى؟.. الأيام والساعات لا أفرقها من بعد فراقك»، وتتذكر نصائحها له: «شغلانة (التكاتك) كلها شر، بشوف الأمهات في التليفزيون بيعيطوا على ولادهم الضحايا، آدينى بقيت مكانهم، ربنا يصبرنى!».
