هل رأيتم حروفاً تنزف؟ هل سمعتم نحيب أرقام؟ هل أصغيتم لأنين البطون؟ هل قرأتم عن خسائر الميدان؟ الخسائر صادمة لأن الرقم هو الحقيقة. هذه الأرقام المبتلة بالدموع لا تصل وسط هدير المليونيات وأمواج الاعتصامات، لكنها الحقيقة، لا تلون ولا تزيف ولا تزور، بل تسطع أمام العيون والعقول، ومن الرشاد أن نعى هذه الحقيقة، وأقول الرشاد لا الحكمة بعد أن ساءت سمعة الحكماء، إذ أصبح إيقاع الحكمة أبطأ بكثير من إيقاع الميدان، فالميدان مشغول بالقسوة فى فض الاعتصامات وصراخ الأمهات على فلذات أكبادهن الذين سقطوا فى بركة دماء بالرصاص الحى وضبط أجانب بقنابل مولوتوف. والراشدون ينبهون ويحذرون لفداحة الخسارة، بيد أن التنبيه والتحذير يضيع فى جو ملبد بغيوم الفوضى والارتباك، مع أن الأمانة تقتضى المصارحة ولكن من يصارح؟ من يملك المصداقية؟ من يصدقه الناس إذا صارحنا بخسائرنا؟ من يفيقنا من الكوابيس؟ نعم، هى مرحلة انتقالية وربما تطول، هكذا يحدثنا تاريخ الثورات. نعم هى مرحلة «تحول ديمقراطى» وألف باء الديمقراطية أن أكون صادماً وأتقبل الرأى الصادم وأحترمه دون تخوين أو عداوة، فالقصد نبيل حين أتحدث عن اقتصاد وطن نازف، يُسمع لأرقامه نحيب، فالسياحة مثلاً - وهى المصدر الأول للعملة الصعبة - تبكى حالها، ففى عام 2010 كانت حصيلة السياحة 15 مليون سائح وحصيلة مصر 15 مليار دولار، وفى الأشهر الأولى من عام 2011 هبط الإشغال الفندقى إلى عشرين فى المائة ثم عاد وارتفع نسبياً، فيما عدا القاهرة ثم تراجع كلياً بعد الهجوم على السفارة الإسرائيلية والسفارة السعودية ووزارة الداخلية ومديرية أمن الجيزة ومذبحة ماسبيرو، واتجه السياح إلى بدائل هى قبرص وتركيا وإندونيسيا، وكل الخدمات السياحية توقفت والمهن السياحية شرحه وجميع عمال السياحة الذين مازالوا يكافحون نقصت دخولهم التى كانت تعتمد على المرتب وحصيلة ال12٪ التى تقسم عليهم، المتوقع - عند الخبراء - أن يصل دخل السياحة هذا العام أقل من نصف العام السابق، فسعر الغرف رخيص ولكى تعود السياحة إلى ما كانت عليه ستستغرق وقتاً طويلاً. المتضررون من السياحة بعد تسريح عدد كبير منهم صامتون إلى إشعار آخر. وتأتى نقطة مهمة اسمها (الجدارة الائتمانية)، ولما كانت مصر تتمتع بجدارة ائتمانية جيدة، كان موردو السلع والمنتجات الصناعية يُمهلون 6 أشهر لرد المبالغ، وعندما نقصت الجدارة (تقرير العالم) أصبح لا يقبل إلا قبض الثمن مقدماً، وتعثرت مصانع فى شراء خاماتها فأغلقت، ومصانع تدنى إنتاجها فأغلقت. وفى العاشر من رمضان أغلق 1000 مصنع وخرج العمال للشارع. كل هذا حين ابتعدت مصر عن «الجدارة الائتمانية»، وليس غريباً أن (تحويشة عمر مصر) البالغة فى (البنك المركزى) 36 مليار دولار هبطت آخر أكتوبر 2011 إلى 22 مليار دولار، أى خسرنا أكثر من الثلث فى أقل من سنة. الأرقام تقول إن نسبة البطالة فى مصر زادت بنسبة 20٪ ونسبة التضخم زادت إلى 18٪، فقد عاد من ليبيا مليون مصرى أضيفوا إلى طابور البطالة. الأرقام تقول إن خسائر البورصة بلغت 11 مليار جنيه، وتتوالد الخسائر لتجعلنا دولة «بتخطى العتبة، دولة «مُعوَّقة»، تسبقنا تونس، ولن تحجب الحقيقة سحابات دخان قنابل شارع محمد محمود ولا الغاز الخانق الذى يشل الأطراف ولا نشاط البلاك بيرى فى استدعاء المتظاهرين ولا تصريحات حازم أبوإسماعيل بالبقاء فى الميدان ولا صهيل عربات الإسعاف الرابضة فى الشوارع المؤدية للميدان، لن يحجب كل هذا الحقيقة الباكية أن اقتصادنا - أعز ما نملك - ينزف دماً، لا حل سوى وقف المليونيات وهذه ليست نكسة للديمقراطية، إن النكسة الحقيقية هى غياب رغيف العيش أو حليب الأطفال أو أنبوبة البوتاجاز أو سرير المريض أو مقعد التلميذ أو شقة العروس، ومازالت الأرقام تنتحب!.. ومازالت الحقيقة تذرف الدموع.