إذا أردنا أن نحدد بالضبط الحد الفاصل بين البحار والمصبات ظهر لنا أنها عملية غير ممكنة (كيث ستو). قال تعالى " وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " (فاطر: 12). وقال " وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا " (الفرقان: 53). لقد وقع أكثر أقوال المفسرين إلى أن الله تعالى عندما يستخدم افظ بحر فإنه يعنى به أى بقعة مائية سواء كانت عذبة أو مالحه وعليه فإنهم يرون فى تفسير الآيه أن المقصود بقوله تعالى " هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ " أى الأنهار ذات الماء العذب أما المقصود بقوله " وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ " أى البحار والمحيطات ذات الماء المالح. ولقد عجبت من قولهم هذا ولطالما أستوقفنى وذلك لأن الله تعالى عندما يريد أن يتحدث عن الماء العذب فى كل المواضع فى كتابه الكريم أجده دائماً يستخدم لفظ نهر- أنهار. قال تعالى " وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا " (الرعد: 3) " وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا " (النحل: 15) وقوله " إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ " (القمر: 54) , وقوله " مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ " (محمد: 15). ليبين أن الماء العذب الخالى من أى ملوحه إنما يجرى فى أنهار وليس بحار وعندما أراد أن يتحدث عن البحار فإن يتحدث عنها مباشرة فقد ذكر الله تعالى البحر فى القرآن الكريم بلفظ (بحر- البحر) 33 مرة ولفظ (بحار) مرتين، (أبحر) مرة واحدة. فلو كان العموم الدائم فى لفظ القرآن عند ذكر البحار والأنهار وغيرها أن يطلق عليها بحر فلم تحدث عن الأنهار بلفظها نهر- أنهار؟! بل أن الله تعالى عبرعن الماء العذب والماء المالح فى آية واحدة باللفظين المختلفين نهر وبحر فى قوله تعالى " أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ " (النمل: 61). ولعل مراد الله هو ما يقصده بلفظه المباشر فبالبحث والدراسة لاحظنا أن البحار والمحيطات فى الأماكن الباردة والمتجمدة إنها تتكون من جزئين الأول هو السطح والثانى طبقة تحت السطح. وفى تلك الأماكن فأن الجليد يكون الطبقة العليا من البحار والمحيطات وله من الطبائع المختلفة ما يجعله بحراً فوق بحر فهو بحر لكون المحيط أو البحر يحتويه ويوقع بين طياته ولكونه نابع من البحر نفسه ولكن إذا نظرنا فى خواصه الطبيعية لوجدنا بحق ما هو سر الإعجاز والإبداع فى الآية الكريمة التى لم أجد من سبقنا إلى تفسيرها بهذه الطريقة حتى ممن تحدث فى عصرنا الحديث عن الإعجاز العلمى فى آيات القرآن الكريم وحسبنا من كلام الإمام الشافعى " كلا منا صواب يحتمل الخطأ وقول غيرنا خطأ يحتمل الصوب " ولأن العلم بنظرياته العلمية قائم على الإجتهاد فاثرت أن أجتهد متخذاً كتاب الله تعالى وسنته وما توصل إليه العلماء فى عصرنا الحديث منهجاً للإجتهاد والبحث ورجوعاً إلى حديثنا فإن من خواص الجليد وكما عرفنا بين طيات هذا الكتاب أنه خالى تماماً من الأملاح (لا يزيد عن 1 % فى أكثر ملوحته) فكلما برد الماء وقلت درجة حرارته قلت بالتالى كثافته وإرتفع شيئاً فشيئاً حتى يصل فى نهاية الأمر عند درجات الحرارة من (صفر- 4) إلى كونه جليداً وثلوجاً طافية على السطح هذه الثلوج تعد بحراً طافياً فوق بحر لا يمكن ان تطفى عليه وتهبط إلى أسفل وكذلك لا يمكن أن يعلو ماء البحر المالح ليخترقها ويصعد فوقها وإنما بينهما وكما قال تعالى برزخ اى حد فاصل لا يمكن تجاوزه. هذه البحار الجليدية المتجمدة العذبة التى تعلو على سطح البحر المالح تغطى أكثر من 95 % من سطح المحيط القطبى الشمالى وجبال الجليد الطافية قد يصل إرتفاع أحدها إلى 80 متر ويغطى مساحة من المحيط قدرها 500 متر ولك أن تعلم أن جبل الجليد يتكون من جزئين الجزء الطافى المرتفع فوق سطح الماء والجزء الغطس تحت سطح الماء ويمثل هذا الجزء الموجود تحت سطح الماء 7 أمثال طول الجزء المرتفع فوق سطح البحر حيث لا يظهر من جبال الجليد والثلج التى نراها سوى 11 % من حجمها بينها ال 89 % الباقية غريقة تحت سطح الماء بينما المحيط القطبى الجنوبى يحوى سلالسل جليدية يصل طول الواحدة منها نحو ماة كيلومتر وإرتفاع يصل إلى 40 متر فوق سطح الماء. ويعد حاجز سور الجليدى من أشهر ما يميز المحيط القطبى الجنوبى حينث يصل إرتفاعه إلى 90 متر فوق سطح الماء ويشغل مساحة نحو 700 كيلومتر. بل والأكثر متعة وإبهاراً ما نجده يحدث عندما تشتد حرارة الصيف إذ يحدث ذوبان جزئى لبعض أشكال هذا الجليد مكوناً كميات هائلة من المياه العذبة تسيل وتجرى وكأنها أنهار فوق سطح هذه المحيطات والبحار المالحة ويسميها بعض العلماء الأنهار البحرية إذ يصل عمقها إلى 200 متر ويسير بسرعة تقريبية تصل إلى 150 متر فى الدقيقة الواحدة. إنها حقاً بحار فوق بحار لا يتعدى أحدهما على الآخر فكل منهما حباه الله تعالى بصفات تضمن له التميز والإنفراد عن الآخر. وعلى سطح تلك الصفائح الجليدية تعيش العديد من الكائنات والثدييات البحرية مثل أسد البحر والبطاريق البحرية كما أن المياه العذبة الناتجة عن تلك الثلوج تعيش بها بعض الأسماك التى تكيفت على الحياة فى تلك الظروف القاسية والباردة وفى تلك المياه العذبة التى تكونت من ذوبان تلك الثلوج يتغذى سكان تلك المناطق الباردة والمتجمدة مثل سكان الإسكيمو على البطاريق البحرية والثدييات البحرية الآخرى التى تسكن تلك الثلوج العذبة على سطح المحيطات والبحار كما يستخدمون جلودها وفرائها فى صناعة ملابس يرتدونها وعقود حول العنق يتحلون بها كما يستخدمون أسنانها فى صناعة بعض الأقراط التى يرتدونها حول معاصمهم وأعناقهم كما يستخدمون جلودها فى صناعة منازل تأويهم وصدق الله العظيم حيث قال " وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا " (فاطر: 12).