فى عقار يبدأ دوره الأول بمنزل الفنان صلاح السعدنى، وينتهى بمنزل الدكتور على جمعة، مفتى الجمهورية، عاش الراحل أسامة أنور عكاشة، عاشق الإسكندرية، التى طالما مثلت له مصدر الإلهام، فخلق بداخلها عالمه الخاص، وكأنه يعيش فى كهف لا يسكنه غيره، يرتاده كلما ازداد حنينه إلى «القلم»، أو تبلورت فى طيات خياله المتسع فكرة رأى أنها نواة لعمل فنى جديد، فلملم أوراقه، وشد الرحيل قاصداً الإسكندرية، ليجلس فى «صومعته» فى الدور السابع، مولياً شطره البحر، ممسكاً قلمه، الذى طالما أبدع، ليكتب لنا إحدى حلقات مسلسل «زيزينيا»، الذى أصبح «وثيقة درامية» شاهدة على أحد أرقى أحياء المدينة، أو يخط بقلمه مشهداً من مشاهد «الحلمية»، ليرسم لنا كيف يقضى الناس يومهم، وكيف تسير لياليها، ليترك لنا «سجلاً» زاخراً بتراث مدينة، يأبى أن يندثر، أو يخرج من الحياة دون توثيقه. «عكاشة» بدأ حياته الأدبية بالقصة القصيرة، عندما أصدر مجموعته الأولى عام 1968 بعنوان «خارج الدنيا»، وكأنها كانت أولى رواياته الأدبية قبل أن تصبح آخر مشاهد حياته الواقعية، عندما أصبح الآن خارج دنيانا، لكنه ترك أعمالاً خلدته واقتنص بها صفحة من صفحات التاريخ الفنى، الذى تبلور بأعماله الشهيرة، ومنها «الأبرياء» «الحصار» «أبواب المدينة» «الشهد والدموع» «ليالى الحلمية» «أبوالعلا البشرى»، «أرابيسك»، «أهالينا» «زيزينيا» «كتيبة الإعدام» «تحت الصفر» «والهجامة»، وكلها أعمال اختط شخصياتها ورسم تفاصيلها من مسكنه فى الإسكندرية بمنطقة سيدى بشر، سواء كانت هذه الأعمال تتحدث عن المدينة أو غيرها، إلا أن حالة عشق نشأت بينه وبين المدينة، فشكلت مصدراً لإلهامه، حتى إنه كان يستمد الشخصيات التى يرسمها داخل رواياته من جيرانه والمحيطين به. عبدالوهاب محمد، حارس العقار الذى سكنه الفقيد، يقول: «عشت معه 8 سنوات لم أر منه سوى كل تواضع واحترام، وكنت أتعجب أنه يعاملنا بود واحترام، حيث لم أر الكبر أو التعالى فى نظراته معى أو مع زميلى الحارس الثانى للعقار». وأضاف: «لما كانت مشكلة تحصل فى العمارة معايا أو مع أى شخص من السكان، كنا نلجأ إليه وهو بيقعد معانا يحلها دون أن يغضب أى من الأطراف، وكان لنا يومياً حديث معه، حتى إننا شعرنا أنه يستخرج منا أبطالاً لشخصياته، ويستخدم مصطلحات فى رواياته نتعامل نحن بها من خلال حديثه معنا، إلا أنه لم يقل لنا هذا صراحة، لكنه كان يتحدث مع كل الناس ويستمع إلى القصص التى نحكيها له عن علاقاتنا وما يدور فى يومنا ومشاكلنا». وتابع: «عندما كان الراحل يأتى إلى الإسكندرية ويدخل فيما يشبه (صومعته) داخل منزله فى الدور السابع، نعلم جميعاً أنه فى مرحلة كتابة سيناريو جديد، وتستمر كتابته عدة أشهر وبعدها يعطينى الورق (السيناريو) لأقوم بتصويره فى مكتبة (جمعة) المجاورة لنا، ويشدد على أن أتأكد أن السيناريو تم تصويره نسخة واحدة فقط، ولم يقرأه أحد، حتى إنه كان حريصاً على عدم إلقاء الأوراق التالفة فى التصوير، والتى قد تدل على طبيعة العمل الذى يكتبه». وقال: أحيانا كان يأتى إسماعيل عبدالحافظ إلى المنزل، ووقتها كنا نتأكد أن هناك تصويراً لأحد أعماله، والغريب أن المنزل فى حالة قدوم المخرج الشهير ينقسم إلى قسمين، كل منهما يدخل غرفة ومعه نسخة من السيناريو، المخرج كى يقوم بإعداد ورسم المشاهد، والمؤلف يضع لمساته الأخيرة، خاصة إذا كانت الرواية تتحدث عن مكان مثل «الراية البيضا» أو «ليالى الحلمية». وأضاف: «أشهر الناس اللى كانت بتزوره وتتردد عليه الممثل صلاح السعدنى، وكان يسكن فى نفس العمارة فى الدور الأول، إلا أنه كان يومياً يزور الفقيد فى منزله بالدور السابع، قبل عودته إلى منزله، بالإضافة إلى الفنان نبيل الحلفاوى، والإعلامى محمود سعد». واستطرد: لم يكن شخصاً عصبياً، وحتى المرة الوحيدة التى تعصب فيها أمامى فوجئت به بعدها بعشر دقائق يصالحنى، عندما أخطأت بعد أن أرسلنى إلى موقف «السوبر جيت» لإرسال ظرف كبير به أحد السيناريوهات التى كتبها، وأراد إرساله إلى القاهرة عن طريق «السوبر جيت»، ونسيت أن أكتب رقم الأتوبيس أو رقم الرحلة، فغضب بشدة منى لأنه كان متخوفاً ألا يصل الورق إلى الشخص المنتظر، ويبدو أنه كان سيرسله إلى مخرج ليقرأه. وأضاف: الفقيد كان من هواة تشجيع كرة القدم وكان عاشقاً للنادى الأهلى، وعندما كان يفوز بأى بطولة، أو يفوز على الزمالك، يكون فى قمة سعادته، إلا أنه يخفى الفرحة بداخله، خوفاً على مشاعر «الزملكاوية». وعن برنامجه اليومى قال: كان يبدأ فى العاشرة صباحاً، عندما يستيقظ من نومه، ويطلبنى كى أحضر له «فول وفلافل»، وهى أكلته المفضلة، ولكن قبلها يجب أن يجد الجرائد التى تعود قراءتها يومياً، وهى «الأهرام» و«الأخبار» و«المصرى اليوم»، وبعدها فى الحادية عشرة ينعزل عن جميع من حوله، ليبدأ رحلته مع الكتابة، وقد يواصل الليل بالنهار لينهى أحد المشاهد، وكنت أعلم بذلك عندما يطلبنى فى وقت متأخر من الليل ليطلب طعاماً، فأعلم أنه ساهر هذا اليوم. واختتم حديثه بقوله: الآن أنا حزين بشدة لأن العقار فقد «أحد أركانه» و«أعمدته»، التى أعطتنا بهجة وكنا ننتظر قدومه إليه، ورحيله ترك فراغاً كبيراً فى نفوسنا، حتى إننى أفكر فى ترك العقار، لأننى شعرت أنه كان صديقاً مقرباً لى، ولم أدرك مدى عشقى له إلا بعد وفاته. خميس الهوارى، صاحب مكتب سمسرة مجاور لمنزل «عكاشة»، يقول: «كنا نراه على استحياء، ولكن فى المرات القليلة التى التقينا به فيها لم نر منه أى سوء، وكان محباً لجيرانه جداً»، وأضاف: «علمت بوفاته من الصحف، وحزنت جداً لأننى شعرت أن الإسكندرية هى أكثر المتضررين من وفاته، فإذا مات عكاشة، فمن سيكتب عن المدينة، ومن سيبرز حواريها ولياليها فى الدراما المصرية». وتابع: منذ فترة طويلة لم أكن أعلم أنه يسكن بجوارى، وعندما علمت بذلك وعرفت أنه هو من كتب مسلسلى «زيزينيا» و«ليالى الحلمية» تابعت أعماله الفنية الأخيرة، خاصة مسلسل «المصراوية»، ووجدت أنها تعبر بصدق وواقعية عن المجتمع الذى يعيش فيه، فكيف حول مكاناً صغيراً فى «زيزينيا» لا يسكنه سوى المئات داخل الفيلات والقصور، إلى عمل فنى شاهده الملايين بحلقات ممتدة مليئة بالأحداث، وعلى النقيض نقل لنا بصدق ما يدور فى الحارة المصرية فى مسلسل «ليالى الحلمية» وكيف تتعرض الفتاة البسيطة «صابرين» لمشاكل عندما تنتقل للعيش مع أقاربها فى مسلسل «أهالينا». وأضاف: «الكاتب الراحل كان يستمد أحداثه من الناس المحيطة به، فقصر «الراية البيضاء كان مجاوراً لمسكنه فى سيدى بشر، وهو كان نواة لمسلسل (الراية البيضا) إلا أن القصر تم هدمه الآن وتحول إلى عقارات سكنية. وقال محمد عمران توفيق، أحد السكان المجاورين له: لم أكن أعلم أن بجوار منزلنا يسكن الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة، لكننى كنت متابعاً جيداً لأعماله خاصة «ليالى الحلمية» و«الراية البيضا» الذى صوره فى نفس المنطقة التى نسكن بها، وأضاف: «حزنت كثيراً على وفاته عندما علمت بالنبأ من الصحف لأنه من الكتاب القلائل الذين كتبوا بصدق عن المدينة، لأن أغلب المؤلفين يلجأون إلى أساليب مبتذلة عندما يتحدثون عن الإسكندرية ونشعر أنهم يقصدون أماكن أخرى غير التى نعيش بها منذ سنوات. «لم تكن لنا علاقة شخصية به إلا أننا عشقنا أعماله».. هذه العبارة ترددت أكثر من مرة بين السكان المحيطين به وهى العبارة التى تعكس رواية حارس العقار، الذى قال إنه كان يدخل فى حالة أشبه بالاعتصام عندما يأتى إلى المدينة ليكتب رواياته ولا يسمح لأى شخص بالدخول، عدا شخصاً واحداً هو الدكتور هشام صادق، الذى كان أقرب الأصدقاء إلى قلب المبدع الراحل.