طرقات قوية متلاحقة وشئ ما قبض قلبها فجأة حتي أن "أم أحمد" قد جرت إلي الباب دون غطاء رأسها ... انسكبت قهوتها ... سمعت همسا في قلبها "أحمد" ... ثوان قصيرة لكنهاكانت باتساع الصحاري و طول الجبال ... هي بين نارين ... أن تفتح الباب فتعرف ماستره هذا الحاجز الخشبي عن ناظريها؟ أو أن تمتنع عن فتحه فتأكل اللوعة قلبها! لم يطل تفكيرها فاتخذت القرار وفتحت الباب لقدكان أحمد لكن ... محمولا علي الأعناق ... هذا عزيز ومحمد وناجي، تعرفهم جيدا، إنهم أصدقاء طفولته .......... وانطلقت آه ... تشق الصدور تصل إلي أعماق أعماق بئر الألم، كان مضرجا بالدماء وملابسه ممزقة، لكن بقيت ابتسامة تضيئ وجهه بنور يرق القلب له فتتأمله العين محاولة الاستزاده منه، انه نور من هم أحياء عند ربهم يرزقون ... نور وجه الشهيد. واختلطت الدماء بالدموع، صارت "أم أحمد" تصرخ وتسكت ... تبكي وتبتسم وتصرخ مرة أخري قائلة "ابني شهيد"، "ابني شهيد" هل تستطيع أي حروف أو كلمات أن تعبر عن احساسها؟ ربما ... تقف الكلمات عاجزة عن وصف لحظة كهذة ... لكنني سأحاول! قلب تقطعت أوصاله، قلب اقتطع بلا رحمة أو هوادة، ألم يقتلع الاحساس من منابته فتشعر لفرط الصدمة بنوع من الخدر والانفصال عن العالم، ثم ما تلبث أن تتعلق بهذا الإحساس ، فتشعر بالرغبة في الانعزال تماما لتحتفظ بتلك الذكريات في عقلك وقلبك ... أغلي ما تملك في مثل تلك اللحظات ... هي الذكريات! تذكرت "أم أحمد" يوم مولده كيف كان صغيرا ضئيلا هادئا جميلا ... تعلم أحمد القراءة في سن صغيرة،كان مداوما علي قراءة القرآن كما علمته ... وكثيرا ما سألها عن معني كلمة شهيد؟ فتأخذ هي في الشرح والتفصيل ... ويتعجب الصغير! هل يمكن لأنسان أن يكون مستعدا للموت لسبب ما مهما كان؟! ... وكبر أحمد، شاب جميل تفرح العين لرؤياه وينشرح الصدر لسماع أفكاره. كان أحمد متصلا بواقعه وكان رافضا لأشياء كثيرة تحدث من حوله تشعره بانتقاص من وجوده وكرامته، وحانت لحظة الخلاص، ظل أحمد طوال أسبوع كامل يحاول أن يقنع أمه بالنزول في المظاهرات ويذكرها بكلامها عن ما يجب علي المرئ أن يفعل في سبيل الحفاظ علي المبدأ والوصول للهدف، وَجِلَ قلبها ... خافت ... نعم خافت ... شعرت وكأن يدا قد أمسكت هذا القلب فاعتصرته فانقبض، لكنها وافقت لا تعرف لماذا؟! ... ودعته في صباح الخامس والعشرين، ونظرت طويلا لهذا الوجه الحبيب المشبع بالأمل والعزم وقالت مستسلمة "خلي بالك من نفسك يا حبيبي" ... أفاقت "أم أحمد" من ذكرياتها علي يد ناجي تربت علي كتفها مواسية. ومضي يومان لاتعرف كيف ومتي لاتتذكرهما تماما ... لكنها في اليوم الثالث وجدت نفسها واقفة في الميدان. أم الشهيد نزلت الميدان ... هي نفسها لاتدري لماذا نزلت؟ ربما لأننا عندما نفقد عزيزا نحاول إما أن نستبدل ذلك الفراغ الكئيب داخلنا والذي يتركه رحيله نستبدله بفعل شئ يحبه الفقيد أو أن نذهب لمكان اعتاد الذهاب إليه نبحث عن آثاره وبقايا روحه ... وأحيانا أخري قد نبحث عن شخص يحبه أو حتي يشبهه وفي حالات قد يصل بنا الأمر لمحاولة رؤيته في الأحلام. أم الشهيد نزلت الميدان ... هنا استشهد أحمد، أخذت تتفحص الوجوه .. هذا وجه يشبهه ... تلك مشيته ... هذا صوت يشبه صوته ...كان الصوت يهتف "الشعب يريد اسقاط النظام" وتحرك لسانها دون أن تدري ... شعرت بنفسها جزءا من كل، كان الميدان كتلة بشرية ملتهبة بالمشاعر، فهتفت ملئ القلب واللسان كانت كلما صرخت تشعر ببئر الألم يجف رويدا رويدا ... وألمها يخفت ... يسكن ...يتواري قليلا ... فادركت الدواء ... إنه الميدان ... في الميدان تتلاحم الأفكار تتوافق الأحاسيس تتوحد القلوب والعقول علي الأهداف فلا تشعر أنك واحد لكنك أنت الكل ... والكل أنت ، هدف يخرجك من دائرة السؤال من أنا؟ ومن أنت؟ ماتدركه فقط ... من نحن... وماذا نريد ... إنها روح الميدان ... روح إن بقيت فستعالج الكثير من أوجاع القلوب والأرواح والنفوس، فقط نحتاج إلي الاستحضار ... علينا ألا ننسي أبدا روح الميدان.