اليمامة: جميلة. الفراشةُ: رقيقة. البومة: شؤم. الغرابُ: أعوذ بالله!. هكذا نصنِّفُ الكائناتِ ونمنحُها ألقابًا ونعوتًا ومناقبَ، من خلال ثقافتنا البشرية، التى لا تعنى لتلك الكائنات شيئًا. الفراشةُ جميلة لأننا نقرنُها بالزهور، لكنها فى الأخيرة حشرةٌ تتطابق تشريحيًّا مع الذبابة التى نحتقرُها. واليمامةُ التى يشبِّه بها الشاعرُ حبيبتَه، طائرٌ لا يختلفُ ريشةً عن البومة التى نكرهها لأننا لا نستطيع تحمّل وسامة وجهها، أو الغراب الذى نلعنه يوميًّا فى أحاديثنا وأمثالنا الشعبية. فى بثٍّ مباشر على صفحتى، صوّرتُ فيديو من شرم الشيخ لفتاة أجنبية حملت قطع الخبز والأجبان، فتوافدت عليها أسرابُ الغربان تأكل على كفِّ يدها، وقلتُ: «طوبى للرحماء لأنهم يرحمون». ولم أتوقف عند التعليقات المراهِقة التى شتمتنى وذكّرتنى بالأطفال الجوعى!، وكأن الفتاة انتزعت لقمةً من فم طفل ومنحتها لغراب!، ولكننى توقفتُ عند بعض تعليقات راحت تلعن الغربان وترميها بالقبح والبشاعة!. يقول «عمانوءيل كانط»، فى معرض كلامه عن علم الجمال، أو الإستاطيقا Aesthetics، إن الشخصَ الذى يقول إن لونَ عصفور الكناريا مقبولٌ، حرىٌّ أن يقول: «مقبولٌ بالنسبةِ لى». فلكلِّ شخص ذائقتُه الخاصةُ ومعاييرُ استقباله للجمال. فقضيةُ «الجمال» تختلفُ عن مجرد «المقبولية». لأن الشخصَ الذى يُقرُّ بأن هذا الشىء جميلٌ، فكأنما يطالبُ الآخرين بأن يروا بعينيه، ويقرّوا بما أقرَّ. والخطأ هنا هو اعتبار «الجمال» «خصيصةً» من خصائص الأشياء. وهذا ليس صحيحًا. فالجمالُ ليس «صفةً» فى الشىء. الصفاتُ هى: الشكل، اللون، الحجم، الملمس... إلخ. بينما الجمالُ «حُكْمٌ» قيمىّ يختلفُ باختلاف الشخص «المُقيِّم». الحُكمُ على شىء بأنه «جميل» تتحكم فيه عواملُ ثلاثة: الحواسُ، العاطفةُ، والمستوى الفكرىُّ للإنسان. وهناك قيمتان تتحكمان فى الإحساس بالجمال لدى الإنسان. هما: إستاطيقا الشىء (القيمة الجمالية للشىء)، ثم الذائقة الشخصية. والإستاطيقا هى الفكرةُ الفلسفية عن الجمال، بينما الذائقةُ هى نتاجُ البيئة المحيطة والطبقة والتعليم والوعى الثقافىّ؛ وبهذا، فالذائقةُ يمكن تطويرُها وتغييرُها وتهذيبُها. بعد الحرب العالمية الأولى، كفر الفنانون والمثقفون بكلِّ الأعراف البرجوازية التى أدّت إلى كلِّ ذلك الدمار الذى اجتاحَ العالم. فظهرت حركاتٌ فنيّةٌ عدمية ثائرة على فكرة الجمال السائدة المستقرة فى الذهن الجَمعىّ للبشرية؛ مثل: الوحشية والدادائية والسريالية، عملت على تحطيم كلّ التقاليد الجمالية والفنية السابقة. عام 1917 أحضر الفنانُ الفرنسى مارسيل دوشامب «مبولة» ومنحها اسم «النافورة»، ثم عرضها فى معرض فنى بوصفها قطعةً فنية! وقال للصحفيين: «أودُّ زحزحةَ بؤرة الفنِّ عن كونه عملًا جماليًّا بصريًّا، إلى أن يغدو تأويلًا عقليًّا». صحيحٌ أن أحدًا لم يرها قطعةً فنيّةً أبدًا، وصحيحٌ أنها اعتُبرت دعابةً فجّةً ضدّ- فنيّة anti -art، وصحيحٌ أن تلك النافورة قد أُلقيت مع القمامة بعد المعرض وفُقدَت إلى الأبد، لكن دوشامب نجح مع أبناء المدرسة الوحشية والتكعيبية فى خلخلة المفهوم القديم السائد لفكرة الجمال عند الناس. وهو ما مهّد الطريقَ لفنانى ما- بعد- الحداثة فى الستينيات الماضية الذين احتفوا بإستاطيقا القبح، أو المفهوم الصادم للجمال. فحلَّتِ الملابسُ المكرمشة والممزقة محلَّ المكوية السليمة، والشَّعرُ الأجعدُ المتموّج محلَّ الناعم المنسدل. والحقيقة أننى أحبُّ الغُرابَ وأستعذبُ صوتَه، وأراه جنتلمان أنيقًا يرتدى بدلة إسموكنج سوداء وقميصًا أبيض، يختالُ فى كبرياء لا مثيل لها، ويسخرُ من تشاؤمنا منه. نحن نتشاءمُ منه بسبب مُحَملّنا الإرثىّ والثقافىّ والدينىّ عنه. فهو الذى أرشدَ أوَّلَ قاتلٍ فى التاريخ إلى كيفية دفن قتيله هابيل؛ فأصبح رمزًا للموت والقبور والشؤم! فلِمَ لا نعتبره أوّلَ معلّمٍ فى التاريخ؟! وحين أرسله نوح، عليه السلام، من السفينة ليختبر وجودَ أرض يابسة، ذهب ولم يعد، فدعا عليه نوح بألا يألفه الناس. فمَن أدرانا لعلّه ماتَ فى الطريق!. دعونا نحرّر عيوننا من المُحمّلات الإرثية، لنستمتع بجميع خلق الله؛ الذى خلق فأبدع. انثروا حبوبَ القمح فى شرفاتكم، كما أفعلُ، حتى تلتقطها الغربانُ والعصافيرُ دون تمييز. «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».