على مدى الأسبوع الماضى، كان الإعلاميون والصحفيون المصريون منشغلين بالمشاركة فى عدد كبير من الندوات والمؤتمرات وورش العمل الرامية إلى الاحتفاء ب«اليوم العالمى لحرية الصحافة»، وهو الاحتفاء الذى تواكب مع طموحات وتطلعات إعلامية كبيرة غداة «ثورة 25 يناير». لقد منحت «ثورة 25 يناير» الإعلام المصرى فرصة فريدة، ليستفيد من مناخ الحرية، الذى بات «حقاً أصيلاً» تم انتزاعه بتضحيات الشهداء وصلابة الثوار، ولينطلق إلى آفاق جديدة، استناداً إلى الزخم الذى توفره الثورة لجميع الفعاليات والأنشطة الوطنية، المتسقة مع متطلبات بناء النظام الديمقراطى المأمول. فى «اليوم العالمى لحرية الصحافة»، كرس كثيرون من زملاء المهنة جهودهم لتعميق الحريات الإعلامية وتطويرها، لتصبح جزءاً أصيلاً من المشهد الإعلامى والسياسى المصرى، لا يجوز الارتداد عنه أو الانقضاض عليه أو المس به، منطلقين من مرحلة إعلامية تشهد رحابة وشغفاً فى الممارسة، وقيوداً باهتة قليلة، وأسقفاً هى الأعلى على الإطلاق منذ أكثر من ستة عقود. ثمة ما يجب على الإعلاميين المصريين فعله، احتفاء بحرية الإعلام، وتكريساً للمكاسب التى تحققت على صعيد الممارسة، وتقنيناً للأوضاع الجديدة عبر إدراجها فى التشريعات الدائمة، وتوسيعاً للحريات القائمة، خصوصاً ما يتصل منها بإصدار قانون حرية تداول المعلومات، ومنع العقوبات سالبة الحرية، وإصلاح الأجور وضمانات ممارسة المهنة. لكن هناك الكثير مما يجب أن يفعلوه أيضاً لضمان أن تتواكب الحريات المهنية التى باتوا يتمتعون بها مع تطور على صعيدى الجودة والالتزام بقيم الأداء الإعلامى وأخلاقياته. يربط كثيرون تلقائياً بين مستوى الحريات الذى تتمتع به منظومة إعلامية ما، وبين كفاءة تلك المنظومة وجودة أدائها، والواقع أن هذا الربط يحتاج إلى مراجعة. تتصدر الدول الاسكندنافية معظم التصنيفات العالمية المعتبرة فيما يتعلق بالحريات الفردية والعامة، وفى القلب منها حرية الإعلام، لكن أغلبنا لا يعرف وسائل إعلام سويدية أو فنلندية أو نرويجية أو دنماركية نافذة ومؤثرة على المستوى العالمى. تهيمن وسائل الإعلام الأمريكية والبريطانية والفرنسية على المشهد الإعلامى العالمى، وتكتسب شهرة ونفاذاً أفضل من ذلك الذى تتمتع به وسائل إعلام دول أخرى مهمة وغنية مثل إيطاليا وألمانيا واليابان وكندا، رغم أن تلك الدول الأخيرة تتمتع باقتصادات واسعة ومستويات حرية إعلامية أعلى مما هو سائد فى الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا. ظل العراق يعيش فى «تابوت إعلامى» كبير طيلة عهد صدام حسين، الذى اقتصر المشهد الإعلامى فى عهده على التلفزة والإذاعة الرسميتين وعدد من الصحف لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، تركز جميعها على أخبار «القائد الملهم الضرورة» وصوره. وبعد الغزو الأمريكى لهذا البلد، تبدلت الأحوال بسرعة مدهشة، ليصبح لدى العراقيين أكثر من 400 صحيفة، و70 قناة فضائية، و80 إذاعة، بسقف حرية شديد الارتفاع، وبأقل القليل من القيود. لكن الحريات الضخمة التى باتت تتمتع بها المنظومة الإعلامية العراقية كرست التفتت والتشظى المذهبى والإثنى فى البلاد، حيث عمل معظم تلك الوسائل كأدوات دعاية سوداء لمصالح عرقية أو طائفية أو أيديولوجية أو مخالب لمؤثرات أجنبية ذات أغراض هيمنة وتحكم، فى وقت عجزت فيه «المنظومة الحرة الواسعة» عن الوفاء بالمعايير المهنية والأخلاقية والتزام اعتبارات الجودة. فى عام 1998، سقط حكم الجنرال سوهارتو فى إندونيسيا، تاركاً منظومة إعلامية عرجاء، قوامها 289 مطبوعة، وتليفزيون واحد، ورابطة مهنية واحدة للإعلاميين، عملت جميعها فى خدمة الحكم العسكرى الشمولى. ولم يمض عام واحد على سقوط الديكتاتور حتى تم إلغاء وزارة الإعلام، وارتفع عدد الصحف إلى 1168 صحيفة، وزاد عدد المحطات التليفزيونية إلى 13 محطة، وبلغ عدد الروابط المهنية أكثر من 30 رابطة، لكن المجتمع الإندونيسى بات متأكداً من أن «الممارسات الإعلامية غير المهنية ساهمت فى إثارة النزعات العرقية والدينية، وكرست الحس التجارى، وزادت التعصب والاندفاع». بعد نحو 12 سنة من انطلاق الحريات الإعلامية بالسرعة القصوى فى إندونيسيا، وجد «مجلس الصحافة الإندونيسى»، وهو هيئة رقابة إعلامية غير حكومية تحظى باعتبار كبير، نفسه مضطراً للقول إن «حرية الصحافة تتسع فى البلاد، لكن الاعتبارات المهنية تتراجع»، معتبراً أن «أقل من 10% من وسائل الإعلام الإندونيسية يعمل بشكل مهنى». من حق الإعلاميين والصحفيين المصريين الاحتفاء بعيدهم العالمى، والمطالبة بتوسيع الحريات وتكريسها، ومن واجبنا جميعاً أن نشجع كل راغب وقادر على إطلاق وسيلة إعلام جديدة على ممارسة هذا الحق بأيسر الطرق وأسرعها، لكن يجب أن نعلم أن الحرية وحدها لا تصنع إعلاماً جيداً. تظل الحرية فضاء إنسانياً ضرورياً لازدهار أى صناعة أو ممارسة أو نشاط، ويبقى الإعلام جديراً بالتمتع بأقصى درجة ممكنة من الحرية لأداء دوره المأمول فى خدمة المصلحة الوطنية العامة، لكن ما تحتاجه مصر الآن هو بناء نظام إعلامى حر ورشيد وقابل للاستدامة والتطور، وقادر على الاستفادة من الحريات فى تعزيز أدائه وتقويمه وضبطه.