لينتظر الوطن قليلا ياحبيبتى، فأنا حزين هذا المساء، بالأمس كنت أتحدث بحماس عن غد نستطيع أن نبنيه من الخواء يدا بيد، كنت أقوى، وأنشط، وأكثر إيمانا بأحلام كنا نطلقها كحمامات بيضاء فى سماء ملونة بأقواس قزح، ونتابعها بفرحة طفولية، وكأننا نمتلك السماء بما فيها. الليلة داهمتنى نوبة من الواقعية الفجة، وبدا لى الوطن مثل مستعمرة العقاب، وأنا وحدى مكبلا بقيود سوداء لا فكاك منها، الأرض أوحال قذرة مليئة بزواحف بغيضة، والهواء ثقيل ولزج، والسماء تواصل الانخفاض لتجبرنى على الانبطاح، والناس صاروا صناديق من اللحم الفاسد.. تاريخ بلا مستقبل، الرائحة كريهة، والملمس خشن، والحوار أسوار من السلك الشائك تكرس الحواجز، أكثر مما تؤطر الحدود، أما الحديث عن الصداقة، والأمل، والعدل، والحب، والحق، والخير، والجمال، فقد أصبح رسميا من أعراض الجنون. بالأمس كنت أطير مثل طائر حر، وأغنى «أنا ليك على طول»، والليلة أزحف مثل سلحفاة سجينة، «وأغنى على شاطئ حزنى وكأن العالم مش ملكى»، هل هذه هى الديار التى عشقتها ياحبيبة؟، الديار التى غنيت لها «فدائى.. فدائى، وأموت أعيش مايهمنيش مادام علم العروبة باقى»، هل هذه هى الأرض التى أقسموا وأقسمنا معهم بسماها وبترابها، ودروبها وأبوابها أن الشمس العربية لن تغيب «طول ما أنا عايش فوق الدنيا»؟ آه من وطن حنث، وأخلف كل وعوده، آه من قادته وشعبه معا، لقد خذلنا الجميع، باعونا عبيدا فى مولات العصر الجديد، واستباحوا أكل لحومنا بتلذذ عجيب، واستمتعوا بانتهاك سيرتنا وصورتنا.. هل يطرب الجلاد لصوت الأنين؟، وإلى متى تستطيع ذاكرته أن تفلت من ضميره؟، وكيف نمنا على ضفاف النيل فاستيقظنا فى جوانتانامو، وسجن أبوغريب، وبقية السجون المعلنة والخفية فى أوطان تحولت إلى زنازين عمومية؟ خرجنا من التاريخ، وهانحن نخرج من الجغرافيا، مهددون بفقدان النيل، وإطلاق قمر «اسهيل»، ومخالب صقور الحرب فى إسرائيل، فقدنا المكانة وهانحن نفقد المكان، نبتلع إهانات البعيد والقريب.. يجلدوننا ويطردوننا ويصلبوننا فى شوارع حلمنا طويلا إنها جزء من تراب وطننا الكبير، ويجلدوننا ويطردوننا ويصلبوننا فى طوابير الهجرة، وبيوت الخدمة، ومناجم السخرة، ويستخدمون لحمنا جسرا يعبرون فوقه إلى أحلامهم واستراتيجياتهم، فيما صارت استراتيجتنا أن ننتقم من الجزائر لنثأر من هزيمة أم درمان، وأن نقيم الأفراح لأن الأهلى (نادى القرن) حقق «المعجزة» وتخطى عقبة الاتحاد الليبى، وأن نواصل الاعتصامات والاحتجاجات ليس من أجل مستقبل الوطن، وثورة إصلاح شاملة، ولكن من أجل قرشين زيادة، وكادر أفضل، والضغط على الحكومة حتى تحقق المطالب الفئوية وفق شعار «مرزوق أفندى.. إديلو حاجة» أو «فوت له بريزة يامعلمى»!! هل كنت ساذجا إلى هذه الدرجة؟، وهل يمكننى أن أستمر كذلك؟ قرأت نصيحة نيتشه «لا تحارب الوحوش، حتى لا تصبح واحدا منهم».. هكذا تحدث زرادشت، لكنه لم يقل لى كيف أعيش بعيدا عن جشع الوحوش. هل هناك أرض أخرى أحب ترابها، وأبنى عليها داري، وأزرع فيها أشجارى، وأقبل فيها حبيبتى؟.. هل لنا مكان فى هذه البلاد التى سادها فسادها، وداهمها دهماؤها، ولاكها ملوكها؟ تعالى ياحبيبتى إلى أرض جديدة، تعالى نعيد الحياة لرفات الإنسانية، ونبدأ من جديد فى دنيا جديدة.. آدم وحيد يمسك بيد حواء وحيدة. خاتمة: تلاحقنى هذه الأيام قصيدة «البلاد المحجوبة» لجبران خليل جبران، أردد طوال يومى «هو ذا الصبح ينادى فاسمعى.. وهلمى نقتفى خطواته/ قد كفانا من مساء يدعى.. أن نور الصبح من آياته/ يا بلادا حُجبت منذ الأزل.. كيف نرجوك ومن أين السبيل؟». [email protected]