لم تعد محاكمة الرئيس السابق حسنى مبارك حلماً أو أملاً بعيد المنال. ولذلك أصبح النقاش ضرورياً حول طابع هذه المحاكمة ومغزاها، وهل يُحاكم على جرائم منسوبة إلى شخصه فقط أم على مسؤوليته السياسية عن جرائم نظامه كلها أيضا؟ فهذه محاكمة تاريخية بكل معنى الكلمة. ومثل هذا النوع من المحاكمات يرسى مبادئ عامة ويفتح آفاقاً للمستقبل، ولا تقتصر أهميته بالتالى على محاسبة المتهم عما فعله فى الماضى. وبمقتضى مبدأ المسؤولية السياسية، يعتبر مبارك هو المتهم الأول فى كل الجرائم التى وُجهت وستوجه إلى أركان نظامه الذين تبين أنهم أقرب إلى «تشكيل عصابى» منهم إلى رجال دولة. وبحكم هذه المسؤولية، لا يمكن تبرئته حتى إذا لم يُستدل على أرصدة وعقارات مسجلة باسمه، ولم تتوفر أدلة كافية على أنه أمر بإطلاق النار على الثُّوار. ولكن المشكلة الآن هى عدم وجود نصوص قانونية تتيح التحقيق فى مسؤوليته عما حدث فى مصر وجرى لها فى عهده، وتمكِّن من محاكمة أركان نظامه أيضا على جرائمهم السياسية. وربما لهذا السبب، اضطر رئيس نيابة الأموال العامة محمد النجار إلى تقديم «مرافعة سياسية» جاءت رائعة فى إحدى القضايا التى أحيلت إلى القضاء. فقد وصف المتهمين فى هذه القضية بأنهم (عصابة الشيطان وجنده وأعوانه الذين تولوا الأمر بغير حق)، وقال إن (مصر حكمها مجموعة من المماليك اللصوص). فكيف تكون انتهاكات بعض من اعتبرهم «عصابة شيطان» و«مماليك» مجرد جرائم مالية؟ وهل تتساوى جريمة أنتجت ما سماه النجار (المارد الشيطانى الأحمر الذى حصل على محفظة عقارية من أراضى الدولة على امتداد 23 مدينة) وجريمة أخرى أخرجت «قزما» حصل على بضعة آلاف من الجنيهات دون وجه حق؟ والفرق، هنا، ليس فى الحجم. إنه فرق كيفى بامتياز لأن جرائم الفساد المالى المنظورة الآن ليست، بكل ما فيها من أهوال، إلا نتيجة جرائم سياسية أشد هولاً. ولكن هذه الجرائم السياسية، التى ينطوى بعضها على تعريض مصالح البلاد وأمنها القومى إلى أخطار جسيمة، مازالت بعيدة عن الإجراءات القضائية نتيجة قصور فى نظامنا القانونى وليس بسبب تقصير أجهزة التحقيق القضائى. فعدالة هذا التحقيق ونزاهته ليست موضع شك، خصوصا فى وجود المستشار عبدالمجيد محمود نائبا عاما. وليس هناك دليل على هذه العدالة أكثر من قرار حبس حسنى مبارك ونجليه على ذمة التحقيق. ويثير قصور النظام القانونى سؤالا ضروريا عن منطق محاسبة أركان النظام السابق، وبالتالى أولويات هذه المحاسبة. فهل جمهورية مصر العربية هى شركة يُحاسب رئيسها ومديروها على جرائم مالية، أم أنها دولة يجب محاسبة أركانها سياسيا؟ كما أن هذه الجرائم المالية ليست مجرد سرقة واستيلاء على مال عام، بل هى جزء لا يتجزأ من منظومة سياسية متكاملة يكمن جذرها فى احتقار مبارك ونظامه الشعب واعتباره كَمّا مهملاً لا حياة فيه، والتعامل مع مصر كما لو أنها أرض بلا شعب، وتوزيع هذه الأرض على أتباعه ومحاسيبه كأنها بلا صاحب. ولا يمكن أن يكون رئيس الجمهورية السابق إلا المسؤول الأول عن هذا كله. والحال أن إغفال المسؤولية السياسية، وما يؤدى إليه من محاكمة أركان نظام حكم احتكر السلطة لمدة ثلاثين عاما باعتبارهم مجرد لصوص- لا يمكن أن يرسى أساسا صلبا لنظام سياسى جديد فعلا. هذا فضلا عن الإحباط الذى يمكن أن يترتب على محاسبة أركان نظام مبارك بهذه الطريقة إذا نجح الدفاع فى استغلال الثغرات التى تحفل بها قضايا الجرائم المالية. ولم يكن محامى أحد الخاضعين للمحاكمة الآن يهزل عندما زعم أن (هذه القضية لو جاءت فى ظروف عادية لتم حفظها)! وما كان لمحام أن يقول مثل ذلك لو أن موكله يُحاكم على اشتراكه فى صنع وتنفيذ سياسة عامة أدت إلى تصغير دولة وتسليمها إلى عصابة وقهر شعبها والإضرار بمصالحها وأمنها القومى. فالمشكلة، إذن، هى فى أن مبارك ورجاله يُحاكمون وفقاً للنظام القانونى الذى جعلوه ملائماً لهم، إلى حد أنهم منعوا حتى إصدار قانون لمحاكمة الوزراء. وربما يتطلب حل هذه المشكلة التفكير فى أحد بديلين: أولهما إصدار مرسوم بقانون لمحاكمة رئيسى الجمهورية والحكومة والوزراء. أما الثانى فهو إنشاء محكمة خاصة مؤقتة للنظر فى الجرائم السياسية التى ارتكبها أركان نظام مبارك وتوفير كل الضمانات اللازمة لعدالتها، على أن تكون مرجعيتها هى القوانين والمواثيق الدولية منذ الإعلان العالمى لحقوق الإنسان.