ترى حنة آرندت أنه كثيرا ما تقترن السياسة عند المفكرين بالسيطرة والغلبة والعنف، وأن هذه النظرة السلبية للسياسة هى ناتجة عن تحيزات وأحكام مسبقة. فى اعتقاد آرندت أن الإنسانية عرفت أوضاعا سليمة نسبيا فى عصور قديمة، وفى عصر الثورات الليبرالية والاشتراكية، فى سياقها برزت السياسة فى معناها الحقيقى أى القدرة على التحاور والتواصل والتداول، الأمر الذى أدى إلى بزوغ نموذجين للسياسة: أحدهما يعتمد النظرة السلبية تجاه السياسة المتجسدة فى الغلبة والعنف، والآخر يستهدف النظرة التواصلية للسياسة. واعتماد النظرة السلبية للسياسة باعتبارها فن السيطرة والعنف دفع بالبعض إلى التفكير فى إسناد السلطة للبيروقراطية، إلا أن البيروقراطية فى الممارسة تتحول إلى خطر على نظام الحكم السياسى ذاته، لأن السلطة فيها مجهولة وغير مرئية. الأمر لا يجعل من السياسة أداة للمعرفة، بل للقهر والعنف. أما النموذج التواصلى فاعتمد على أن الفهم يسبق ويتبع المعرفة، فالفهم هو الأساس المتين لأى معرفة. إن الفهم الحقيقى يتجاوز مجرد المعرفة، ليجعل من معرفة الظوهر وتحليلها مدخلا لبناء معنى ومغزى للأحداث والظواهر. فالتحليل السياسى، عند حنة آرندت، الذى لا يثبت أو ينفى ما يمكن اعتباره طبيعة الحكومات اللااستبدادية، ينفى عن نفسه فكرة العلم، وبالتالى القدرة على تأسيس الفهم السياسى. من منظور حنة آرندت فإن جوهر الأزمة الحضارية يتمثل فى تزايد غياب المعنى مترافقاً مع فقدان الحس المشترك بين الثقافات منذ بداية القرن العشرين. إن هذا التدهور انسحب على كل مجالات الحياة والمجتمع، وترى آرندت أن ذلك ليس فقط من ظواهر المجتمع الجماهيرى، أى المجتمع الذى يحكم ويُعلى من عاطفة الجماهير وليس فهمها، بل ينطوى بالضرورة على تحول نحو نظام شمولى للمجتمع والحياة. هكذا تفهم حنة آرندت مفهوم القوة كصيغة للتواصل، فترى «القوة جزءاً مهماً من العالم الاجتماعى، غالباً ما يتم إهمال إسهامها فى تشغيل الحياة الاجتماعية وأدائها لوظائفها».. فى تفصيل هذه الرؤية تقول آرندت إن «كل المؤسسات السياسية هى تجليات وتجسدات مادية للقوة، فهى تتكلس وتتحلل عندما تكف القوة الحية للناس عن دفعها»، فالحقيقة الأساسية فى الحياة الإنسانية هى الجماعية والتنوع فى نفس الوقت، وهما يولدان الحاجة والعمل معا وبشكل متزامن. ويتم، فى هذا الخصوص، التمييز بين نوعين من العمل: أولهما العمل الاتصالى، وثانيهما العمل التقريرى. القوة - وفقا لمفهوم العمل الاتصالى - تتمثل فى قدرة البشر على أن يعملوا ليس فقط معا، ولكن أيضا أن يعملوا بطريقة متناسقة. فالقوة فى معناها الأصلى تصور رضائى أو طوعى يعتمد على اتفاق جماعة من الفاعلين الاجتماعيين على كيفية تنظيم ووضع قواعد لممارساتهم الحياتية المتعددة. فالقوة عند آرندت ضرورية لتحقيق التنسيق بين الأفراد لأداء هدف اجتماعى متفق عليه، فهى ضرورية لأى هيكل تنظيمى إنسانى، ولابد أن تقوم على الاقتناع الحر من جانب المحكومين، ومن ثم تكون القوة هنا قوة اجتماعية إيجابية، وبدون هذا الرضاء يصبح الكيان السياسى القائم هو صورة من صور اغتصاب السلطة. والقوة بالوصف المشار إليه لا يمكن أن تكون فى الجوهر فردية، بل لابد أن تعود إلى جماعة، وتظل موجودة طالما ظلت الجماعة مع بعضها البعض. فى هذه الحالة تنبع مشروعية القوة من اجتماع الناس فى كل مكان بحيث يتصرفون بتنسيق فيما بينهم. حنة آرندت تفهم أن ثمة خطأ جوهرياً فى تصور بنية مفهوم القوة الاجتماعية التى تجعلها تمارس كأساس لعدم المساواة والهيمنة، فعند تحليلها للنظم الشمولية تفهم العنف كصورة مناقضة تماما للسياسة، بحث يستهدف العنف إقصاء السياسة أو تغييبها تماما. هى تصور العنف باعتباره مرتبطاً بأفعال غير سياسية مثل التحايل من أجل الضبط أو التطويع الاجتماعى، التخدير الأيديولوجى، فتذهب فى كتابها «فى العنف» إلى القول: «إن السلطة والعنف يتعارضان: فحين يحكم أحدهما حكما مطلقا يكون الآخر غائبا». ويظهر العنف «لما تكون السلطة مهددة، لكنه إن ترك على سجيته سينتهى باختفاء السلطة». إن العنف لا يمثل إلا مسلكا من المسالك التى تلجأ إليها السلطة، وهى تحاول تبريره. عندها الأفعال السياسية لا تحتاج إلى تبرير، أما العنف فيوجب فى أغلب الأحيان التبرير. وتقول حنا آرندت: «لا يمكن للعنف أن ينحدر من نقيضه الذى هو السلطة، وأنه يتعين علينا، لكى نفهم العنف على حقيقته، أن نتفحص جذوره وطبيعته». وطبقا لمنهجها الفينومنولوجى ترى آرندت أن العنف يعبر فى كثير من الأحيان عن مشاعر لا ترتبط بالسياسة بالضرورة: كالخوف من الموت، والفناء، والبحث عن الخلود عن طريق استمرارية الجماعة. ويظهر العنف المضاد للسلطة عند غياب الحرية. فالحرية تعنى «القدرة على الفعل» أو «القدرة على التأثير».. ويستمر التحليل.