إذا أردت أن تعرف معدل التدهور الحادث فى الجامعات المصرية هذه الأيام، فما عليك سوى أن تقارن بين حال كلية الاقتصاد والعلوم السياسية منذ سنوات قليلة، والتى كانت تبدو آنذاك كلؤلؤة مضيئة فى سماء جامعة القاهرة وحالها اليوم. فالأنشطة التى كانت تقوم بها مراكز البحوث فيها حولتها إلى أحد أهم مواقع الإشعاع الفكرى والعلمى فى مصر. ساعدت على ذلك مجموعة من العوامل، أهمها: 1- وجود كفاءات علمية بارزة على رأس هذه المراكز، من أمثال الدكاترة: على الدين هلال، ومحمد السيد سليم، ومصطفى كامل السيد، وغيرهم. 2- حُسْن اختيار الموضوعات والمتحدثين وعدم وضع سقوف أو قيود على حرية النقاش، باستثناء ما يفرضه أدب الحوار. 3- الحرص على تنوع المدارس الفكرية، بإتاحة الفرصة للجميع للمشاركة بأطروحاتهم ونظرياتهم، وتوجيه الدعوة إلى كل من يستطيع أن يسهم فى إثراء النقاش، سواء من داخل الجامعة أو من خارجها، دون تمييز بين المدارس والاتجاهات. وعندما كانت تقع مشاكل لم يكن الأمر يسلم من بعضها، بسبب الحضور الدائم لأجهزة الأمن داخل الحرم الجامعى، كانت تُبذل محاولات جادة للتغلب عليها، باتصالات شخصية، وعند فشلها لم يكن هناك تردد فى الاحتجاج علناً وبقوة، مما شكل عنصر ردع كانت السلطة تعمل له ألف حساب. الآن اختلف الوضع تماماً. إذ تبدو الكلية أقرب إلى فرع للجنة السياسات فى الحزب الوطنى منها إلى مؤسسة مستقلة حقا، وأصبحت المراكز تفتقد معظم العناصر التى كانت قد أسهمت فى رسم صورتها المتألقة فى الماضى. دليلى على ذلك واقعتان حدثتا هذا الأسبوع: الواقعة الأولى: تتعلق برفض الكلية استقبال البروفيسور يوهان جالتنج، النرويجى الجنسية، وأحد كبار أساتذة العلوم السياسية من ذوى الشهرة العالمية والإسهام البارز فى إثراء نظريات العلاقات الدولية. وكان الدكتور حسن حنفى قد اتصل بى فى بداية الأسبوع الماضى، ليحيطنى علماً بالزيارة المرتقبة لهذا الأستاذ البارز، وتحمست لاقتراحه تنظيم لقاء مع الأساتذة والباحثين فى قسم العلوم السياسية، وشجعته على الاتصال برئيسة القسم وعميدة الكلية، متصوراً أنهما لن تفوتا فرصة لن تكلف الكلية أى شىء، غير أن محاولاته باءت بالفشل. المثير للدهشة إن اللقاء تم بالفعل، ولكن فى إحدى قاعات المجلس الأعلى للثقافة، بعد موافقة الدكتور عماد أبوغازى مشكوراً، وكان معظم الحضور من المعيدين وطلاب الدراسات العليا فى قسم العلوم السياسية فى الكلية!. الواقعة الثانية: إلغاء لقاء كان يفترض أن يستضيفه مركز الدراسات الأمريكية بالكلية، ويشارك فيه وفد من قيادات تحالف المصريين الأمريكيين الذى يزور القاهرة حاليا، للتعرف على رؤية النخبة المصرية للدور الذى يمكن للجالية المصرية فى الولاياتالمتحدةالأمريكية أن تقوم به فى خدمة الوطن الأم. وكان المركز قد وافق على عقد هذا اللقاء يوم الأربعاء 22 ديسمبر، وتم بالفعل حجز قاعة مجلس الكلية فى ذلك اليوم لهذا الغرض، كما تم الاتفاق على جدول الأعمال والمتحدثين، وأن يشارك فيه من يرى المركز استضافتهم من أساتذة الكلية أو من خارجها، وأدرج ضمن البرنامج الرسمى لزيارة وفد التحالف للقاهرة، ثم - قبل الموعد المحدد بأقل من 20 ساعة - تم إلغاء اللقاء دون إبداء الأسباب. المثير فى الأمر أن أحد أعضاء الوفد، وهو الدكتور طارق سعداوى، الأستاذ بكلية الهندسة بجامعة نيويورك، عضو بالهيئة العلمية لمجلة جامعة القاهرة، التى يرأسها رئيس الجامعة بنفسه!. كان الذهول بادياً عليه وهو يحكى تفاصيل الموضوع فى عشاء خاص دعا إليه الدكتور محمد أبوالغار، حيث المفارقة تبدو واضحة بين ما تحاول جامعة القاهرة أن تتظاهر به وما هو حادث فعلاً. فالجامعة، التى تحاول إضفاء الجدية على مجلة علمية تصدرها، تقوم بمنع الأساتذة الذين يمنحونها هذا الشرف من دخولها!. يا لها حقاً من مفارقة. لا يحتاج الأمر إلى تعليق من ناحيتى، لكننى أصبحت أخشى، إن استمر الوضع هكذا، أن تكون الخطوة التالية هى منع الطلاب أنفسهم من دخول الجامعة!.