ما تشهده التحركات الروسية تجاه أوربا من نشاط دبلوماسي رفيع المستوى ، وفي ضوء ما تحقق في لشبونة مستعينة بإيطاليا وبولندا وبلجيكا والإتحاد الأوروبي بالإضافة إلى فرنساوألمانيا ، يدفعنا لمزيد من التأمل وبعمق لماهية الحراك الروسي الغير معهود من روسيا بوتين ، لاسيما وأن نتائج القمة تُشير إلى طوي سنوات من الحرب الباردة وربما بعض التوتر الذي مازال يصاحب العلاقات في عدد من الملفات ، وإن لاحت في الأفق رغبة في تقارب يحقق المصالح المشتركة . فلا شك أن تعزيز العلاقات مع أوربا يصب في إتجاه تحقيق المصالح الروسية في المقام الأول ، إقتصادياً وربما سياسياً وأمنياً دون صدام ، كما يساعد على تعزيز مواقعها الإقليمية والدولية ، فالأمر لم يعد يقتصرعلى باريس وبرلين بل يمتدد إلى قلب القارة العجوز وشرقها لإحتواء دول كانت بالأمس مستعمرات روسية (سوفيتية) أو بالمعني الدقيق عانت من سلبيات الإتحاد السوفيتي السابق . فالدور الحيوي لدول شرق أوربا يبقى مهماً للأمن الأوروبي ، فكانت فكرة " الشراكة الشرقية " تعزيزاً للمصالح الأوربية وتوثيق روابطها في المنطقة بعيداً عن عضوية الإتحاد الأوروبي ، لتواجه ما عُرف بالخطر الروسي الذي روجت له بولندا آنذاك ، ومازالت تتعامل بتحفظ شديد في علاقاتها مع موسكو . وفي حين إعتُبِرَ إعتراف روسيا بأحداث مدينة "كاتين" التي راح ضحيتها الضباط البولنديين ، خطوة نحو توثيق العلاقات وإحتواء الأزمات مع أوروبا ، خاصة أن وارسو كانت عائقاً قوياً دون توقيع إتفاق الشراكة الإستراتيجية لموسكو مع بروكسل ، فمع إنتهاء زيارة ميدفيديف ، حل الرئيس البولندي ضيفاً على البيت الأبيض ، في إشارة واضحة لموسكو بأن العلاقات مع واشنطن تبقى هي جوهر السياسة الخارجية لبلاده وإن تحسنت العلاقات مع الكرملين . ولكن الدفء الذي تعيشه موسكو و واشنطن وإقتراب المواقف في عدد من القضايا والتفاهم المشترك بين الكرملين والبيت الأبيض قد يساعد موسكو في تحقيق بعض المكاسب ، حتى وإن كانت بعض القوى السياسية في واشنطن مازالت تنظر لروسيا بعين الحرب الباردة . كما أن الشراكة القوية لروسيا مع باريس وبرلين تتشابك فيها المصالح ، قادرة على تطويع أوروبا وتغيير سياستها بدرجة أو بأخرى تجاه روسيا والتعامل مع موسكو كشريك وتحقيق ما لم يستطع أحد تحقيقه من قبل. وأهمية ألمانيالروسيا في الشمال الأوروبي لاتقل عن تلك التي لإيطاليا في جنوب القارة ، أضف إلى ذلك أن علاقات الصداقة الوثيقة للزعيم الروسي "فلاديمير بوتين" ورجل إيطاليا القوي "سيلفيو برلسكوني" من شأنها المساعدة في تخطي موسكو لعقبات كثيرة ، داخل الإتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي ( الناتو ) ، وأن قطاع الطاقة عصب الإقتصاد الروسي تتعزز مواقعه في بقاع مختلفة من العالم بما فيها أوروبا ، بفضل التعاون مع الشركات الإيطالية . وتظل جورجيا هدفاً غير مرئياً في تحركات روسيا الدبلوماسية نحو أوروبا وحلف شمال الأطلسي ، ولكن ثبات الموقف الأوروبي من هذا الملف يضع الجهود الروسية على المحك ، فيما يتعلق بقدرتها على تغيير موقف أوروبا من ساكاشفيلي ، فضلاً عن عدم وضوح الرؤية فيما يتعلق بدرع حلف شمال الأطلسي . وتسعى روسيا إلى خلق لغة حوار مع معارضيها داخل الاتحاد الأوروبي وكبح جماح هذ القوى حتى تتمكن من تحقيق أحد أهم أهدافها القريبة وهي توقيع إتفاق الشراكة الإستراتيجية وإلغاء نظام التأشيرات والإنضمام إلى منظمة التجارة العالمية ، ليأتي بعد ذلك دور الأهداف بعيدة المدى والتي أتصور أنها تتركز في الأمن الأوروبي الذي يراعي حاجة ومصالح كافة الأطراف وفق الرؤية الروسية .